ضجيج الأزقة

مروة حسن الجبوريّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 286

مع خيوط الصباح الأولى وزقزقة العصافير في أعالي السماء، رفرفت الحمامات هي الأخرى بأجنحتها التي صاحبتها ترانيم الدِيكة المبتهجة بولادة يوم قد يغدق بفيوضاته على أبناء المحلّة، هذه التراتيل الصباحية كنتُ أعيشها صباح كلّ يوم مشرّعةً للأمل أبوابًا واسعةً. رائحة الخبز الطازج فاحت من أزقّتنا، وصوت بائع اللبن وهو يضرب كأسه براحة يديه جعل من سحرية المشهد باعثًا على المحبّة والحبور، بيد أنّ أخي هاشمًا ما يزال يقاوم النوم، ويعود إلى فراشه مرّة أخرى متذمّرًا من هذا الضجيج! وبينما أحاول إيقاظه بكلمات لطالما سمعناها في صغرنا وأنا أحمل الخبز المحمّص بالسمسم وأقرّبه من أنفه ليقفز مسرعًا، جاء أبي ومعه اللبن الطازج، قائلًا: نعم يا هاشم. وقفتُ عند النافدة مردّدة في سرّي: مَن لم توقظه الأصوات، فستوقظه رائحة الخبز المحمّص. اعتادت عائلتي أن تجلس قرب شرفة البيت على حصيرة السعف التي صنعتها أمّي، فيما كانت نافورة المياه المثيرة تتوسّط الدار، وإلى جنبها تقف أزهار الصبّار وشجرة النارنج في لوحة لم تُعد قارّة إلّا في البيوت الماسكة بتلابيب التاريخ. في وسط لجّة الذكريات كنتُ أرقب حركات أبي وهو يتحدّث مع هاشم، حسرة مارقة كسرت سيل الذكريات، فرفعتُ معها رأسي لأناجي ربّ السماء، فاضت عيني بالدموع، ثم أطلقتُ حسرتي مرّة أخرى. مع ركون مؤشّر الساعة نحو الساعة الثامنة من هذا الصباح، وعلى غير التباشير الأولى منه، تلبّدت السماء بالغيوم مثلما هو قلبي ملبّد بالهموم، حوّلتُ نظراتي، فمرّة إلى السماء، ومرّة أخرى إلى وجه أخي، مرتّلةً كلمات لا أحد يعرفها غيري، وأنا مضطربة خائفة. هناك مَن يطرق الباب.. ـ مَن؟ مَن الطارق؟ ـ لا أحد! لقد فعلها القدر مرّة أخرى، ليس هناك سوى مشاغبة الريح. بهدوء أغلقتُ الباب ورجعتُ، بخطوات ثقيلة عدتُ، سكبتُ الشاي الذي كان على الموقد الذي بناه أبي في الدار، وأضحت عملية إيقاده من المأثورات التي أدمنتُها مع صوت القرآن الكريم الذي كان يُبثّ من إحدى القنوات الدينية التي بقي مؤشّر المذياع عليها منذ زمن بعيد. عدتُ إلى مكاني الذي أصبح من طقوسي اليومية، فلا خبز بدونه أو حياة، بل هو العمل المهيمن، فبالخيط والإبرة أخيط العباءات لنساء المحلّة، وأرتّق أيام العمر المنفلتة. عدتُ إلى سنواتي الآفلة، حينما كان هاشم يبادلني النظرات وقد تحجّرت في عينه دمعة بعد غصّة بسبب فتات خبز علق في بلعومه، حتى هُرعت نحوه وضربته على ظهره مردّدة: (اسم الله عليكَ)، وها أنا عاجزة عن الركض نحوه حتى أنفض رماد الخيبة واليأس من داخله. بعدما أنجزت خياطة العباءة، قلتُ له: ـ هل تذكر هذه العباءة؟ باستغراب أجابني: ـ كيف لي أن أنسى عطر الجنّة؟ هذه عباءة أمّي. قلتُ: هذه العباءة احتفظتُ بها حتى حان وقتها الآن، فمسك بطرفها وقبّلها ودموعه تنهمر. ابتسمتُ لأنّها إرث عظيم، لكنّ بكاءه أزعجني، وزادني كدرًا. قبضتُ على العباءة بقوة، فهناك بقايا من رائحة الجنّة، وقلتُ له: علّها ترقيكَ يا نور عيني. علت الحيرة ملامحي، تضاربت دقّات قلبي مع الوقت، وفي ذاكرتي هناك تراتيل تُقرأ، وآيات تُمجّد، لكنّها كسقوط النار في الماء، تذوب سريعًا، مثل شعلة أحلام استسلمت إلى موجةٍ من الأوهام. انتفضتُ من شرودي وهُرعت نحوه: كيف لكَ أن تعانق الموت وأنتَ على قيد الحياة؟! بقيتُ على هذا الحال وكأنّها الحقيقة، تمتمتُ: ـ هل يسامحني الربّ على تفكيري؟ مع حبّات المطر هناك حبّات من الوجع تسكن في قاع صدري، كيف لهذا الشاب أن يعالج، ومَن يموت أولًا؟ بدأتُ بإعداد الطعام، وصرتُ أمازحه وأنظر إليه، وأخبّئ في جوفي نارًا مستعرة، فليس لديّ خيار آخر، علّه يجد الراحة هناك، ووسط هذه الوساوس والتداعيات، لفت انتباهي من بعيد، هناك على كتف هاشم شيء أسود، خصلة من الشعر قد سقطت على كتفه، نوبة بكاء ثالثة ورابعة ساورتني، لكن سرعان ما هبّت الرياح وحملت الخصلة معها، وأخذت الأفكار تراودني وتشتدّ عواصف الأيام في دار لا أملك منها شبرًا واحدًا، فنحن هنا من أجل الحراسة فقط، أخ مُصاب بالسرطان، وفتاة لم تبلغ الثلاثين بعدُ، وأب يعمل حارسًا لهذه الدار، دوّنتُ هذه المشاهد في دفتر مذكّراتي والحزن يطوّقني كطوق الحمام، لا أعرف أيّ باب أطرق، فكلّها مؤصدة. بادرته مرّة أخرى: ـ هاشم أخي، هناك دعوة لزيارة كربلاء. أطرق برأسه، فهو يعرف أنّ زيارة كربلاء هو حلم ما يزال يطوف في ذاكرته. جهّزت حقيبته ومعها بقايا من شعره المتساقط على كتفي الحقيبة، وبيدي الأخرى أمسك بيده وقلبي يسير قبلي. أدفع عجلة العربة إلى أين؟ إلى حيث الجرعة. حثثتُ السير بخُطىً سريعة جدًا، وخاطبته: لعلّكَ يا هاشم تجد الراحة في هذه الدار، وعند عتبة الباب وقفتُ للحظة. عرف هاشم المقصود، فطأطأ رأسه كمَن لا يملك علاجًا آخر، بتثاقل وصل إلى تلك الردهة، لكنّه شكرني هذه المرّة على المفاجأة، وطلب منّي أن أمسك بهذه الورقة الأخيرة قائلًا: ـ هذه وصيّتي! ـ أنا أيضًا لديّ وصيّة يا أخي: إنّ هذه الردهة دار آمنة. عدتُ إلى البيت ويدي ترتجف، أمسكتُ الورقة الأخيرة وكانت الوصيّة هي: (السلام على الحسين)، فعرفتُ أنّ أخي قد أوصى بزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، فقمتُ بما أوصى به، وتمّت الزيارة. خبّأتُ انتكاسة هاشم عن والدي، وعند عودته من خارج البيت سألني: أين هاشم؟ قلتُ بنبرة خائفة: هاشم في دار آمنة. وبعد مرور عدّة أيام اتّصلت إدارة المستشفى وأبلغتني أنّ هذه الجرعة كانت الأخيرة، والجثّة تنتظرنا عند باب الخروج.