السحر والشعوذة..جهْل وتجهيل
الشريط الأصفر هو ذاك الذي يحدّد مسرح الجريمة؛ للوقوف على أسبابها عن طريق جمع الأدلّة وتحليلها، والوصول إلى الجاني، ومن ثمّ معاقبته، تحقيقًا للعدالة، ولإصلاح ما فسد من سريرته. نحاول وضع شريط أصفر حول مسرح الجريمة أيًّا كانت، مادّية أم معنوية؛ لحصر أسبابها، ووضع حلول ومقترحات لمحاربتها؛ لضمان عدم تكرارها، وحصر تأثيراتها في أضيق نطاق ممكن للحفاظ على الأمن المجتمعي، وكذلك الروح يجب الحفاظ عليها من تلوّث فطرتها بنوازع إجرامية مكتسبة. قامت القوّات الأمنية بالقبض على أحد السَحَرة المشهورين، واعترف بأنّه كان يمارس السحر والشعوذة عن طريق صفحة على موقع الفيس بوك؛ لابتزاز النساء إلكترونيًا، إضافة إلى مشعوذين آخرين أُلقي القبض عليهم، كانوا يحتالون على الناس دَجلًا وكذبًا. نجد بعض المجتمعات اليوم غارقة في دهاليز مظلمة، تزداد فيها الروح عتمةً مع طلاسم وتعاويذ ملوّثة بالشرك بالله تعالى، وخزعبلات السَحَرة والمشعوذين، تلك الخزعبلات التي أخذت تنتشر كالنار في الهشيم في عصر التكنولوجيا والتطوّر العلمي مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، واستغلال السُذّج من الناس، ونجد بعضهم قد افتتح قنوات فضائية مخصّصة لتصدير صورة منمّقة عن الشعوذة والدجل تحت مسمّيات علم الطاقة والأبراج والتوقّعات الفلكية التي تُعدّ ضربًا من الكهانة، مع فتح اتّصالات مع الناس، وعن طريق كمّ الاتّصالات ندرك جيدًا مدى الجهل الذي غرق فيه المجتمع. فمنذ قرون سحيقة والمجتمعات الجاهلة تعشعش فيها الشعوذة والسحر، وكان الناس يقصدون السَحرة والمشعوذين لحلّ مشكلاتهم وأمراضهم، لكن مع تطوّر الحياة أصبح السحر يُطلب على مواقع التواصل وكأنّه وجبة (دليفري)، أو في أحسن الأحوال تظهر مقاطع مموّلة يُبثّ فيها كيفية عمل السحر، وهي متاحة لجميع مستخدمي مواقع التواصل بخاصّة الفيس بوك، وهناك الكثير من الأطفال والمراهقين وضعاف النفوس الذين يتأثّرون بما يرونه لجهلهم، وقلّة وعيهم، وقلّة إيمانهم بالله تعالى؛ فيلجؤون إلى السَحَرة والمشعوذين على أمل تحسين حياتهم وقضاء حوائجهم، وهذه هي النقطة التي تجعل الساحر ومَن يرتاد إليه في خانة الكفر، بخاصّة أنّ التسويق الإعلامي للسَحَرة والدجالين يتضمّن ردّ المرأة المُطلّقة، وجلب الحبيب، وجلب الرزق، وفتح النصيب، ووصل الأمر ببعضهم إلى أن يعلن عن قدرته على تعيين الموظّفين أو نقلهم! وقد يلجأ إليهم بعضهم من أجل الإضرار بالآخرين، أو التفريق بين الأزواج حقدًا وحسدًا. هذا الاستخفاف بالعقول، والاستهانة بالتعاليم الدينية، وجدت مَن يتلقّفها من النفوس الضعيفة الجاهلة، والعاصية لله تعالى، فدمّرت المجتمع، وأغرقته في بحور من الجهل والتجهيل. ومهما تكن الأسباب لانتشار السحر والدَجَل، فإنّ من واجبنا بوصفنا أفردًا حريصين على سلامة المجتمع، أو مؤسّسات معنيّة أن نعمل يدًا بيد للقضاء على هذه الخزعبلات، وتنظيف المجتمع منها، وتوعيته على خطر هؤلاء على النسيج المجتمعي، والارتقاء به نحو العلم والوعي والثقافة والالتزام الديني. ولا توجد مادّة في قانون العقوبات العراقي تخصّ السحر والشعوذة، إلّا أنّه يمكن أن يدخل في ضمن المادّة رقم (456) الخاصّة بالنصب والاحتيال التي تنصّ على الآتي: 1ـ يُعاقب بالحبس كلّ مَن توصّل إلى تسلّم أو نقل حيازة مال منقول مملوك للغير، لنفسه أو إلى شخص آخر، وذلك بإحدى الوسائل الآتية: أ – باستعمال طرق احتيالية. ب – باتّخاذ اسم كاذب، أو صفة غير صحيحة، أو تقرير أمر كاذب عن واقعة معيّنة، متى كان من شأن ذلك خدع المجني عليه، وحمله على التسليم. 2ـ يُعاقب بالعقوبة ذاتها كلّ مَن توصّل بإحدى الطرق السابقة إلى حمل آخر على تسليم أو نقل حيازة سند موجد لدَيْن، أو تصرّف في مال، أو إبراء، أو على أيّ سند آخر يمكن استعماله لإثبات حقوق الملكية، أو أيّ حقّ عيني آخر، أو توصّل بإحدى الطرق السابقة إلى حمل آخر على توقيع مثل هذا السند، أو إلغائه، أو إتلافه، أو تعديله(1). هذا في ما إذا لم تُضف إلى عقوبة النَصب والاحتيال عقوبة الابتزاز. ولو تمعنّا في ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) بشأن السَحَرة ومَن يرتاد إليهم، لوجدنا أنّ أموال الدنيا وما فيها لا تستحقّ أبدًا العقوبة التي ذُكِرت في تلك الأحاديث والروايات، فمنها ما ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال: "مَن تعلّم شيئًا من السحر قليلًا أو كثيرًا فقد كفر، وكان آخر عهده بربّه وحده أن يُقتل إلّا أن يتوب"(2)، وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "مَن مشى إلى ساحر، أو كاهن، أو كذّاب يصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله من كتاب"(3). وهناك حديث رائع لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) يبيّن فيه عقوبة الزوجة التي تسحر لزوجها لزيادة المودّة أو ما شابه ذلك، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) لامرأة سألتُه: أنّ لي زوجًا وبه عليّ غلظة، وإنّي صنعتُ شيئًا لأعطفه عليّ، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أفٍّ لكِ، كدّرت البحار، وكدّرت الطين، ولعنتكِ الملائكة الأخيار، وملائكة السماوات والأرض، قال: فصامت المرأة نهارها، وقامت ليلها، وحلقت رأسها، ولبست المسوح*، فبلغ ذلك النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقال: إنّ ذلك لا يُقبل منها"(4). إذن في كلّ الأحوال مَن يتعلّم السحر، أو يذهب إلى السَحرة والكهّان والمشعوذين، فهو آثم ومرتكب للحرام؛ لقلّة الوعي والإيمان، ولاستشراء الجهل والسفاهة، وهو جهل وتجهيل للمجتمع، ولا خير فيه أبدًا. .................................................... (1) المادة 456 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 (2)ميزان الحكمة: ج٢، ص١٢٦٨. (3)وسائل الشيعة: ج١٧، ص١٥٠. (4)مَن لا يحضره الفقيه: ج٣، ص٤٤٥. * المسوح: جمع مِسح، وهو الكساء من الشعر وما يُلبس من نسيج على البدن تقشّفًا، وعملت ذلك خوفًا من الله وتوبةً إليه.