رياض الزهراء العدد 90 لحياة أفضل
عِندَمَا يَمُوتُ الآبَاءُ فِي عُيُونِ الأَبْنَاء
جمعني بها القدر، فلم يكن في حساباتي أن أتعرف على كائن من ألم، خليط من ضياع، نهارها يساوي ليلها في وحشته، على ضعف بصرها فهي لا تبصر سوى جدران متصدعة، كقلبها المتهرّئ على حداثة ولادته، تحيط بها قناني الأدوية في ردهة الرقود، بعد أن ألـمّت بها الأمراض على صغر سنّها, كانت في الردهة نفسها التي ترقد فيها والدتي بعد أن أُجريت لها عملية جراحية. يسمونها (حورية)! لكنها حورية جرداء من هذا الزمن الذي علقوا فيه أعناق القيم على حِبال المشانق. جلستُ بجانبها، نظرتْ لي وبصوت خافت وبنصف ابتسامة بريئة قالت: أتعلمين أني أعيش على السوائل الوريدية (المغذّي) منذ مدة ليست بالقصيرة؟! سألتها عن السبب؟ بدموع تسابق كلماتها أجابت: بعد أن فتح لنا الحرمان أبوابه على مصراعيها، معاناة في كلّ شيء: فقر وجوع ومرض، أُصبت بانسداد الأمعاء وضعف بصري ولم أعد أرى سوى أشباح وخطوط متعرّجة كحياتي، مما جعلني رهينة المشفى. وأردفت بكلمات متقطعة كأنفاسها: والدتي لا تملك شيئاً من حطام الدنيا لا مهنة ولا شهادة ولا عمل، وأخي الصغير ترك المدرسة وامتهن جمع القناني الفارغة من النفايات ليؤمّن قوت يومنا. وعندما سألتها عن والدها اختنقت بدموعها الممزوجة بحسرة وألم، ثم هدأت قليلاً وقالت: مات والدي وأنا في الخامسة من عمري وترك معي أخاً وأختاً أصغر مني مكفوفة. ثم أردفت: كان أبي موظفاً وأحبّ زميلة له اشترطت عليه أن يطلّق أمي كي يتزوجها، فطلقنا معها بالثلاثة كمهر لها، كانت أمي في أيام حملها الأخيرة، ولم تحتمل وقع الخبر، فخرج الطفل ميتاً وأصابتها حالة نفسية شديدة ما تزال تعاني منها بعد عشر سنين من ذلك اليوم المشؤوم، والآن أصبح أبي من التجّار والوجهاء وزوجته وأولاده يعيشون في ترف ودلال. فسألتها: إذن والدك ما يزال على قيد الحياة؟! صمتت برهة قصيرة وأشاحت بوجهها عني مردّدة: لقد مات في عيوننا منذ أن بدأت الناس تتصدق علينا، وتركنا للذل والحرمان من دون أن يطرف له جفن أو يرق له قلب حتى إن الناس في المنطقة (العشوائيات) التي نسكنها يسموننا بيت الأيتام، ويتصدّقون علينا ليكسبوا الأجر والثواب. مسحتُ دموعي وابتسمتُ في وجهها الملائكي الحزين محاولة أن أخفف ألمها، فقلت ممازحة: أنتِ جميلة كالقمر، تبسّمتْ ضاحكة. خرجتْ والدتي بسلام وبقيت حورية ترقد في بيت راحتها كما يحلو لها أن تسمّي المشفى الذي تقضي فيه أغلب أيامها، على طول الطريق المؤدي إلى بيتنا وأنا أفكر فيها، مما دفعني لكتابة قصتها الموجعة للقلب، فكم من حوريّة مجهولة المصير ضيّعها الآباء أو حكم عليها القدر، ملفات متشعبّة لحوريّات من هذا الزمن القبيح، فبعضهنّ قضى على مستقبلهنّ الآباء بزواجهنّ المبكر وطلاقهنّ المبكر، وبعضهنّ وبعد انفصال الأبوين تشردنَ في البيوتات بين الأعمام والأخوال وزوجات الآباء وأزواج الأمهات، وأخريات من دون مأوى تجمعهنّ الطرقات وأرصفة الشوارع، فيكوننّ عرضة للمتعرضين من الذئاب البشرية المتوحشة، وبعضهنّ الآخر حكم عليهنّ القدر بوفاة الآباء وفقدان المعيل ليلاقينَ المصير نفسه. إذن ما الفرق بين مَن غيّبه الموت ومَن مات ضميره وقلبه وهو على قيد الحياة!