اللقاء الأول

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 493

تلألأت القبة الشماء أمامي تنافس ضياء الشمس، وافتر ثغر السماء عن شعاعٍ أغر.. صدح صوت القارئ يتلو محكم الذكر قُبيل أذان الظهر، وينقل عطش الأرض إلى داحيها، والنفس إلى باريها، ويحيي القلوب التي توطنت في تلك البقعة المباركة من بقاع الجنة.. كان لقاؤنا الأول يتراءى في المدى، فتعلق العين بالقباب والمآذن المطلة من عل كاستجابة الدعاء، وتمتزج المشاهد العلوية بدمع الشوق، وتتمايل ما بيني وبينها آهات الحنين، ويحملني إذن الدخول العابق بوجدٍ سامق إلى رحابه.. عاشقةٌ أنا لسلطان العاشقين.. كنتُ أعلم أن اللقاء سيكون فريدًا، فلكل مشهدٍ مطهرٍ من مشاهدهم وقعٌ خاص في النفس مختلف عن سواه، تمامًا كوقع آيات السجود، كلها تناجي المعبود وتدعو إلى طاعته والخضوع لمشيئته، لكن مذاقها يتنوع، ومغزاها يتضوع في أعماق الروح، فيحملها على الالتصاق بأديم الأرض لتبلغ عنان القرب، كذلك كان لقاؤنا الأول.. غريب الغرباء هو، وحبيب الأحباء، وكل صفةٍ ملكوتيةٍ تفيض بها الجوارح في نجواها لرب السماء.. وتتداخل المشاعر والمناظر.. رباه! إني لم أرَ أنسًا كهذا قط، يمازجه حزنٌ هادئ، وسرورٌ وادع! أيمكن أن يتسع هذا القلب الوامق لهذا الكم الهائل من التضاد في المشاعر؟! حتى الدموع، لم أعد أدري إلامَ أنسبها؟ إلى فرحٍ باللقاء بعد طول انتظار، أم إلى الحزن الأثير الذي يأخذ بمجامع القلوب حين تنظر، وتخفق، وتفكر في الأمير تلو الأمير، وما جرى عليهم من جور الزمان وأهل الدنيا الغَرور؟! بلى، وأقرر وأنا أذرف شوقي فأستطيب الإمعان فيه، والانسياق خلف هداه الذي يعصمني من كل تَيه، أن أستذكر العز الذي يحتويني فأحتويه.. هو الرضا، أنيس النفوس، وجليس القلوب المطمئنة، ثامن الأئمة وأبو الجواد التقي ـ عليهم جميعًا ألف صلاة وسلام وتحية ـ لا وصف يكفي ليبين حالَه، لكنها بضع كلماتٍ تعرفنا جلالَه. ويطيب لي وأنا أمعن الفكر والغوص في عمق هذا الجمال الساطع، أن أستذكر منبع الضياء، وأن أستعين بعين القلب على رؤية بعض ما تمليه ذاكرة التاريخ من أشياء.. يلوح لي من بعيد سادس الأئمة الأطهار، صادق الأئمة جعفر (عليه السلام)، يحادث ولده ووارث علمه موسى (عليه السلام): "إن عالم آل محمد (عليهم السلام) لفي صلبكَ، وليتني أدركتُه، فإنه سمي أمير المؤمنين (عليه السلام)"(1). ثم يلوح لي كاظم الأئمة موسى (عليه السلام) يحادث أصحابه، بعدما اشترى تلك الجارية الأثيرة (تكتم): "والله ما اشتريتُ هذه الجارية إلا بأمر الله ووحيه"(2)، فسُئل عن ذلك فقال: "بينا أنا نائم إذ أتاني جدي وأبي ومعهما شقة حرير فنشراها، فإذا قميصٌ وفيه صورة هذه الجارية، فقالا: يا موسى، ليكونن لكَ من هذه الجارية خير أهل الأرض..."(3). وأنكفئ إلى الجارية العابدة الزاهدة التي حمل إمامان عظيمان صورتها في عالم الرؤيا ليُرياها ولدهما.. وإذا بي أرى السيدة الجليلة العارفة (حميدة المصفاة) أم موسى، تحادث ولدها بشأنها قائلةً: "يا بني، إن (تكتم) جارية ما رأيتُ جارية قط أفضل منها، ولستُ أشك أن الله تعالى سيظهر نسلها إن كان لها نسل، وقد وهبتها لكَ فاستوصِ خيرًا بها، فلما ولدت له الرضا (عليه السلام)، سماها الطاهرة"(4). مولاتي يا أم موسى، لستُ أحسب أن قولكَ هذا كان من تلقاء نفسكِ، وإن كنتِ من عظيمات أمهات الأئمة، فمثل هذا الاستشراف للمستقبل لا يأتي به إلا نبي أو إمام، وما أظنها إلا وصية أوصاكِ بها بعلكِ سيد الصادقين، وها أنتِ تقومين بتنفيذها، وها هي (تكتم) تدخل بيت ولدكِ الإمام، فيسميها (نجمة)؛ لتتألق في ليل ذاك الزمان، وتحتل في بيت الإمامة أرفع مقام، وتحمل بسيدٍ من سادات الأنام، وتُحدث: "لما حملتُ بابني علي لم أشعر بثقل الحمل، وكنتُ أسمع في منامي تسبيحًا وتهليلًا وتمجيدًا من بطني، فيفزعني ذلك ويهولني، فإذا انتبهتُ لم أسمع شيئًا، فلما وضعتُه وقع على الأرض واضعًا يده على الأرض، رافعًا رأسه إلى السماء، يحرك شفتيه كأنه يتكلم..."(5). مولاتي، يا نجمة آل محمد، وتكتم سرهم، كأني بكِ تتبسمين والهةً وأنتِ تحدثين، وتتمثلين بعلكِ ومولاكِ الكاظم (عليه السلام) وهو يقبل نحوكِ باسمًا مستبشرًا، يقول: - "هنيئًا لكِ يا نجمة كرامة ربكِ"(6). ثم يتلقف منكِ وليدكِ المبارك، ويضمه إليه، ويقيم عليه سُنن الولادة، ثم يرده إليكِ قائلًا: "خذيه، فإنه بقية الله في أرضه"(7). تتراقص الأصوات من حولي، وينطلق الأذان ساطعًا مترقرقًا يتغلغل في سويداء الأرواح، كأنما هو أذان الإمام الكاظم (عليه السلام) لمولوده العظيم قد عبر الزمان ليصل إلينا، وتستحيل الأشياء إلى جوهرها، وتتوجه الأنظار إلى مظهرها، وترتقي الأنفس نحو ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ ولا خطر على قلب بشر، وتسجد الجوارح في فناء المحبوب، ويلهج اللسان بالعشق المكتوب: يا مولاي، يا ثامن أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله)، يا أنيس النفوس حقا حقًا، يا علي بن موسى الرضا.. مدد! ................................................ (1)بحار الأنوار: ج ٤٩، ص100. (2)دلائل الإمامة: ص ٣٤٨. (3)الأنوار البهية: ص210. (4)عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2، ص24. (5)الأنوار البهية: ص211. (6) عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، الشيخ الصدوق: ج ٢ ، ص ٢٩. (7) بحار الأنوار: ج24، ص212.