رياض الزهراء العدد 194 فقه العجائز
انعتاق
منظر الكتب المُبعثرة والأشرطة المُتدلية من بين صفحاتها، وقصاصات الأوراق التي استحالت إلى اللون الأسود وهي تحتضن بكل ود تلك الحروف المُتفحمة، وكوب الشاي الذي أحب احتساءه باردًا! وسلسلة أفكاري وأنا أستنطق أسرار الكتب، وزيي الحوزوي المُحبب إلى قلبي المتدلي أمامي، كل هذه الأشياء مقدسة عندي، فضلًا عن هذا الوقت الخاص الذي لا يُطرق فيه بابي، ولا يقطع علي أحد فيه لذة مناجاتي ومناغاتي للكُتب، فكل مَن في البيت يعلم ذلك، وهكذا كنتُ أعيش على اللقيمات. كان هاتفي وتحديدًا تطبيق الـ(ماسنجر) لا يكف عن الإضاءة بين الفينة والأخرى إشارة إلى ورود رسائل، لم ألتفت إليه ورحتُ أنسل من جديد إلى عالمي الخاص المُفضل، لكن الفضول استدرجني لمعرفة سبب تلك الإضاءة التي لم تخفت ولم تكف! تصفحتُ هاتفي، فوجدتُ اتصالات عديدة من الحساب نفسه.. ربما كان الأمر مهما.. كان الشخص ما يزال يتصل، فرددتُ على المكالمة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تفضلوا بخدمتكم.. جاءني صوت أجش، لوهلة تصورتُه رجلًا! بعد رد التحية قالت: شيخي، تُوفي زوجي منذ سنة وأنا لم أعتد بعدُ، وأريد من اليوم أن أقضي العِدة! ساد الصمت لوهلة بيننا، هي تنتظر الإجابة، وأنا أنتظر سبب عدم الاعتداد حينها! قطعتُ حاجز الصمت بسؤالي: هل كان بعيدًا واستعلمتِ حاله الآن؟ قالت: لا، لكن لم أتم عِدتي بالشكل الصحيح، إذ إني كنتُ أضطر إلى الخروج والتحدث مع الرجال الأجانب كأعمام أطفالي، ورأيتُ أشياء استباحت عِدتي، فلم أستأنفها من جديد! تسمرتْ الكلمات في فمي وتبعثرتْ، فرحتُ أتجول في معلوماتي التي درستُها قرابة العقدين، هل أجد فيها أشياء يكون النظر لها مُفسدًا للعِدة؟! لا أدري على أي منشأ استندت هي وقريناتها؟! كان الصوت يأتيني تِباعًا: ألو.. ألو.. انتشلتُ فكري من تجواله في أروقة معلوماتي وأجبتُها: العِدة لا تُقضى إن لم تأتِ بها حينها، والخروج للضرورة لا إشكال فيه، حتى الكلام كذلك، أما رؤية الأشياء جميعها، فلا تفسد العِدة.. أردفتْ بعد برهة قائلة: وهل كان حقا علي أن أعتد بعدتين حينها، عدة لي وعدة لضرتي التي تُوفيت قبل زوجي؟ تلجلجتْ الكلمات في فمي مرة أخرى، ربما كانت تتصارع فيما بينها من هول ما سمعته! فأعدتُ ترتيبها وتنميقها مجددًا، وقلتُ: ولِمَ ذلك؟ ما العلة؟ قالت: لا أدري، سمعتُ بذلك! قلتُ: وهل كل ما نسمعه نعقله؟! ثم واصلتُ قائلًا: تلك بدعة، مثلما لا يحرم عليكِ الخروج من البيت الذي تعتدين فيه إذا كان لضرورة تقتضيه، أو لأداء حق، أو فعل طاعة، أو قضاء حاجة، نعم يُكره الخروج لغير ما ذُكِر، لكن لا يحرم. شكرتني وأغلقت الهاتف، وعدتُ لأتصفح الكتاب، فوجدتُ كلمة كبيرة توسطته (العِــــــــدة) فأوجستُ خيفةً في نفسي ورميتُ الكتاب، وعانقتُ الوسادة انعتاقًا من واقعي المرير.