سَحَابَةٌ سَودَاءُ خَيَّمَتْ عَلَى جُزءٍ مِن بَلَدِي

وفاء عمر المسعودي
عدد المشاهدات : 154

دقت أجراس الخطر وخيّمت سحابة سوداء فوق أرضنا ليعم ظلامٌ حائكٌ سلب منّا الأمن والأمان, حتى المواشي في قريتنا لاذت إلى حظائرها، كأنها أدركت صليل شفرات السيوف تتجه نحو كلّ جميل في قريتنا لتبعث فيها الدمار, لقد غزا أرضنا أشباه أناس لا نعرف لهم هوية ولا عنواناً ولا يحملون معنى الإنسانيّة في نفوسهم, فتركنا أرضنا وزرعنا وبيوتنا وما نملك فراراً من وحشيتهم؛ لنحظى بسلامة هي أعزّ علينا من أنفسنا، كرامة بناتنا ونسائنا, وهجرنا ذكريات الماضي وما يحمله من عذبه ومرّه وما رسمناه من أحلام المستقبل وراء ظهورنا، وفررنا إلى أرض الحسين (عليه السلام) لعلّنا نجد في غربته سلوة لغربتنا. هذه هي جراح النازحين الذين أُجبروا على ترك مواطن استقرارهم، فتأملتْ مجلة رياض الزهراء (عليها السلام) أحوالهم وأرادت أن تشد من أزرهم بالتعرّف على ما يكابدونه من صرخات أوجاعهم، وما أضاعوه من غالٍ ونفيس في تهجيرهم، وعرضه على صفحات المجلة مواساة منّا على تهجيرهم. ومن الشخصيات التي تحدثتْ معها المجلة الأخت فاطمة نظير/ التي كانت تقطن في قرية كبة (قرة قوينلي) وذكرت شيئاً من معاناتها ومعاناة أهلها، إذ تحدّثت قائلة: نحن عائلة كبيرة تتكون أفرادها من والدي وخمس أخوات وثلاثة إخوة, نسكن في بيت كبير يتكون من طابقين، ولنا أرض زراعيّة واسعة تصل إلى خمسة دوانم زيادةً على أن أبي كان يستأجر أراضي زراعيّة أخرى لنقوم بزراعة محصول البطاطا فيها بكلّ حيويّة ونشاط، وكلّ منّا يعرف واجبه، ونحاول الاكتفاء الذاتي عن طريق زراعة الأرض بمحاصيل أخرى، ونجود على أقاربنا بما أنعمه الله (عزّ وجل) علينا من خيرات الأرض، وفوجئنا باحتلال المحافظة من قبل الأعداء، فعزم والدي على الارتحال من قريتنا بكلّ حزم مضحّين بكلّ ما نملك، وتاركين محصول البطاطا الذي كنّا نرجو من زراعته الخير الكثير بدون حصاد, وكان ارتحالنا بصورة سريّة هروباً من الغزاة وكنّا نتحاشى السير في الشوارع العامّة، ونسلك طرقاً نائية وبعيدة عن أعين الناس, إذ كان أبي متخوّفاً علينا نحن بناته وزوجته من أن نتعرض لا سامح الله تعالى لأي أساءه، وكان يقول لنا: إن النقود تتعوض، لكن سلامتنا نحن أعزّ عليه من أيّ شيء, وتمكنا والحمد لله من الوصول إلى أرض كربلاء أرض الحسين (عليه السلام) وأصبحنا بعد العزّ والجاه نسكن في حسينية صغيرة نحن وأقاربنا، وبعد ليلة دهماء أصبحنا معدومين فقراء لا نملك غير رحمة الله (عزّ وجل)، وعلى الرغم من المساعدات التي تصل إلى أيدينا، فإننا نحسّ بعجز كبير لأبسط متطلبات الحياة, وأمّا عن معاناتي الشخصية فأنا طالبة في الصف السادس الإعدادي (الفرع العلمي)، وبعد هذه الأحداث الجسيمة توقفت دراستي، وأحاول الآن استرجاع همّتي للدراسة بعد أن أعطتنا وزارة التربية فرصة للعودة، فهذه هي أمنيتي خصوصاً أنّ الدراسة والحصول على الشهادة للبنات في مجتمعنا الريفي من الفرص الذهبيّة التي لا تُتاح لكلّ فتاة في العائلة إلا إذا كانت تتميّز بنوع من الذكاء, والحقيقة أنّ الدراسة في الحسينيّة صعبة للغاية؛ لأنها تضمّ أعداداً كبيرة من الناس، والهدوء تقريباً شبه معدوم وإن كان الذين يتقاسمون معنا السكن فيها من أقاربنا، فالحصول على جوّ مريح فيها صعب للغاية، وأتمنى أن لا يضيع هذا الحلم ويكون في ضمن الأحلام التي ذهبت مع الريح. أمّا الأخت أم حيدر/ التي تم تهجيرها من تلعفر، فتكلّمت عن معاناة أسرتها، إذ قالت: إنّ عائلتي تتألّف من ستة أفراد، أنا وزوجي ولدينا بنتان وولدان, ويعمل زوجي في مهنة الحدادة، وكان له محل صغير أخرجه من مساحة الحديقة التابعة لبيتنا، وكنّا مستقرّين ماديّاً إلى حد كبير والحمد لله، إذ كان عمله يؤمن أغلب احتياجاتنا, ولكن بعد النزوح فقدنا كلّ شيء نملكه (بيتنا وما يحتويه من أثاث ومحل زوجي وأدواته الخاصة بالحدادة)، وأصبحنا نترجّى العطف من الناس بعد أن توقعنا الاستقرار في بيتنا الذي امتلكناه قبل التهجير بوقت وجيز وبعد سلسلة من العناء والجهد في جمع مبلغ شرائه, وبعد التهجير قرّرنا الذهاب إلى كربلاء، وحصلنا على ركن في أحدى الحسينيّات التي فتحت أبوابها لنا ولكلّ المتضررين، وهم مشكورون على ذلك، وعلى الرغم من المساعدات التي تصل إلينا من فيض العتبات المقدسة وبعض المؤسسات وكذلك المقدّمة إلينا من قبل أهالي كربلاء إلّا أننا نشعر بغربة داخليّة يصعب علينا وصفها, والذي يؤلمني أكثر أن أبنتي الكبرى كانت مجتهدة جداً في دراستها، وبعد الظروف التي تعرضنا إليها أصبحت لديها ردة فعل من الاختلاط بالمجتمع, ولا تحبّذ الذهاب إلى المدرسة، ونسعى أنا ووالدها إلى الاهتمام بها وأن نشعرها بالاطمئنان والأمان وأن الظروف التي تمرّ علينا سوف تنتهي ونتمكن من العودة إلى بيتنا ومنطقتنا في أقرب وقت لكي تتمكن من الانخراط ثانية بالمجتمع. الأخت نرجس التي تم تهجيرها من الموصل: كانت لها مصاعب أخرى، فهي أم لثلاثة أطفال، ولاقت صعوبات جسيمة في تربية أولادها والاعتناء بهم, ولاسيّما بعد استشهاد زوجها في إحدى الانفجارات التي حدثت في الموصل, ولم تجد مَن يعينها على تربيتهم غير رحمة الله (عزّ وجل)، إذ كانت البنت الوحيدة لوالديها اللذين فارقا الحياة منذ زمنٍ بعيد, وبعد الاحتلال الذي حدث للمدينة اضطرت إلى الهروب إلى كربلاء الحسين (عليه السلام) خوفاً من شراسة العدو؛ ولأنها ترتبط بمدينة كربلاء روحياً من خلال مداومتها على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في الأربعين من صفر, وقد سكنت في إحدى الحسينيات التي كانت معتادة على الاستضافة فيها أيام الزيارة، وهي تتظاهر أمام أولادها بالقوة والعزيمة، لتبعث في نفوسهم الطمأنينة، وتحمد الله(سبحانه وتعالى) على كلّ بلاء وتقول: أنا أفضل حالاً من الآخرين؛ لأني موظّفة تابعة لوزارة التعليم، وعلمت أنّ الراتب لن ينقطع عني بسبب التهجير الذي تعرضت إليه. بين ليلة وضحاها أصبح هؤلاء النّازحون بلا مأوى يضمّهم, ولا عمل يكتسبون منه لقمة عيشهم إلّا النزر القليل منهم, والذي يملك منهم من قوة الشباب ما يعينه على امتصاص حالة اليأس والصدمة التي انتابته يحلم في كلّ يوم بالرجوع إلى مسقط رأسه حيث جذوره وجذور أجداده وأرضه وسكنه وأحلامه وماضيه. فلنفزع إلى الله (سبحانه وتعالى) بهموم النّازحين وإلى كلّ مَن لبّى نداء المرجعية العليا في الدفاع عن أرض الوطن وبيضة الإسلام، وهم مصممون على الجهاد حتى الاستشهاد؛ ليرووا أرضهم بدمائهم الشريفة حتى يبزغ فجر النصر على أرضنا الحرّة الكريمة، وتنتهي بذلك صفحة من صفحات التهجير وأوجاعه.