"دعوني والتمسوا غيري..."
من المعلوم أنّ من أبرز العقائد عند الشيعة الإمامية هو الاعتقاد بالنصّ على الإمام؛ بمعنى أنّ الإمام هو مَن يختاره الله تعالى كاختياره للأنبياء والرُسل (عليهم السلام)؛ لأنّ مهمّة الإمام مكمّلة لرسالة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لذا لم ينزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(المائدة:3) إلّا بعد تبليغ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ما أمره به الله تعالى من تنصيب الإمام عليّ (عليه السلام). من هنا قد اتّخذ بعضهم ما نُسِبَ إلى الإمام عليّ (عليه السلام) من قول في نهج البلاغة: "دعوني والتمسوا غيري..."(1) دليلًا على خطأ عقيدة النصّ على الإمام، ومن ثم بطلان عقيدة الشيعة الإمامية، وللردّ على هذه الشبهة لابدّ من مناقشة النصّ سندًا ومضمونًا: فأمّا سندًا: فالإمامية لا تقول بصحّة كلّ ما ورد في نهج البلاغة، وعليه لا يمكن الاحتجاج بنصّ من نصوصه إلّا بعد التأكّد من اعتباره سندًا، والنصّ المذكور غير مُعتَبر لضعف سنده، فهو في مصادرنا مرفوع إلى الإمام عليّ (عليه السلام) من دون ذكر سلسلة السند، وفي مصادر العامّة مرويّ عن سيف بن عمر الضبّي، وهو رجل ضعيف عند علماء الجرح والتعديل من أهل السنّة، منهم النسائي(2). وأمّا مضمونًا: فلو سلّمنا جدلًا باعتبار النصّ سندًا، فإنّ فهمه يقتضي فهم الظروف والقرائن الموجودة آنذاك، وأهمّها: 1ـ كان أغلب مبايعي الإمام (عليه السلام) هم أنفسهم الذين بايعوه بيعة الغدير ثم نكثوها، فمن المحتمل أن يعيدوا الكرّة ببيعتهم هذه، لذا قال لهم: "التمسوا غيري...". 2- على الرغم من اتّفاق المبايعين على رفض سياسة عثمان، إلّا أنّهم مختلفون في الوعي والميول والطموح؛ ففيهم مَن يأمل في أنْ يسير الإمام (عليه السلام) بسيرة الأول والثاني، ومنهم مَن يطمح في أنْ يتّخذ السياسة التي يرتضونها هم، أي كانوا يرغبون باتّخاذه (عليه السلام) معبَرًا لتحقيق أهدافهم. 3- كان الإمام (عليه السلام) على علم بأنّ المسلمين مُقبِلون على فتن كبيرة، يختلط فيها الحقّ بالباطل، وقد أخبرهم بقوله: "...فإنّا مُستقبلون أمرًا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإنّ الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكّرت..."(3)، ومن ثم ستختلف العقول في تشخيصها، وفيما يجب اتّخاذه من موقف تجاهها، وستُوهن القلوب أمامها، فلا تكون بمستوى المسؤولية المناطة بها، وتضعف عن مواجهة الباطل، من هنا لم يكن معنى قوله: "دعوني والتمسوا غيري..." أنّه غير منصوص عليه من الله تعالى، بل كان: 1- إمعانًا منه في إقرارهم على بيعتهم. 2- رفضًا منه لأن يكون تابعًا لهم ومعبرًا لتحقيق طموحاتهم غير المشروعة. 3- إتمامًا للحجّة عليهم، وإبطالًا لما قد يدّعونه من الإكراه على البيعة. 4- سبيلًا لأنْ يشترط بأنْ يحكم بالشرع المقدّس: "...واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ، رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتبِ العَاتِبِ..."(4)، فإن هم قبلوا قبل بيعتهم، وإلّا فلن يقبلها؛ إذ لا يصحّ عقلًا وشرعًا القبول بولاية يكون معها الإمام في موقع التابع ويكون لهم وزيرًا ناصحًا مُرشدًا؛ إذ لعلّ الأمير الذي يولّونه سيحقّق طموحاتهم، وذلك خير لهم، خيرًا دنيويًا، وهذا معنى قوله: "وأنا لكم وزيرًا خيرٌ لكم منِّي أميرًا"(5)، فلمّا قبلوا شرطه وتعهّدوا بنصرته قَبِلَ بيعتهم، ورُوي عنه (عليه السلام): "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر لألقيتُ حبلها على غاربها"(6). .......................................................... (1)نهج البلاغة: ج2، خ92. (2)يُنظر: كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي: ص187. (3-5)نهج البلاغة: ج2، ص92. (6)المصدر نفسه: ج1، ص3.