درة المغرب
أَهي أنتِ؟ خامسة الإماء المطهّرات، الزاكيات الطيّبات العارفات، مَن اختارهنَّ خير أهل الأرض ليلدنَ لهم خير الأصفياء، فكنَّ للنساء قدوة، وللأمّهات سيّدات، وكيف لا يكنَّ وهنَّ للأئمة المعصومين أمّهات؟ مولاتي، تطأطئ لهيبتكِ نبضاتي، وتغرق في بحر عرفانكِ كلّ حروفي وكلماتي.. سيّدةٌ أنتِ من خيرة بنات المغرب، استعبدتها حرب فحرّرها سلام، وأيّ سلامٍ كسلام تلك النفوس المطمئنّة التي استودعها الباري تعالى علومه، ونشر عن طريقها على الورى نعمه، ظاهرةً وباطنةً. قالوا إنّ الإمام الجواد (عليه السلام) أرسل مَن يشتريكِ خاصّة، وعذرًا للفظة، فمثلكِ لا يُشرى ولا يُباع، لكنّها أقدار الله الذي شاء أن يحملكِ من بلادكِ القصيّة، محفوفةً برعايته وحمايته، لا ينالكِ سوءٌ ولا تحلّ بكِ أذيّة، حتى تبلغي كنف أهل بيت العصمة، فيرسل الإمام مَن يبتاعكِ من ذلك النخّاس، وهو يصفكِ له وقد عرفكِ بمعرفته النورانية قبل أن يراكِ، وإذا بالدرّ المغربيّ النضيد يُشترى بالمعدن الخريد، ثم ها هو يعتقكِ ويتزوّجكِ، وقد علم بعلم الله أنّكِ الأمّ الموعودة لوريثه الموعود، وإذا أنتِ تلدين له ذاك النقيّ الهادي عليًّا (عليه السلام)، وتلدين أيضًا أخته حكيمة، تلك الصدّيقة التي شاء لها المولى أن تشهد في قابل الأيام مولد حجّة الله في الأرض والسماء، آخر الأوصياء وخاتمهم. أيّ سيّدةٍ أنتِ؟ بل أيّ شريفةٍ في النساء، لم ترقَ إلى شرفها إلّا أمّهات الأوصياء. وهل السيادة حكرٌ على بنات الأحرار؟ وهل الشرف إلّا التقى والورع والارتقاء في سلّم أهل السماء؟ وهل الحرّية إلّا تلك النفحة الروحانية العابقة في ثنايا الكيان، تترجمها الحياة معرفةً بالله سبحانه وعرفانًا لأولي العرفان؟ ها أنتِ (سمانة المغربية)، حرّة بل سيّدة الحُرّات في زمانها، ويكفي شاهدًا على ذلك قول ولدكِ وإمامكِ، وشهادته بحقّكِ، تلك الشهادة التي عرّفتنا فضلكِ، وأضاءت لنا عتمة التاريخ لتفهّمنا قدركِ ونبلكِ: "أمّي عارفةٌ بحقّي، وهي من أهل الجنّة، لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبّار عنيد، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام، ولا تتخلّف عن أمّهات الصدّيقين والصالحين"(1). مولاتي، أيّتها الجليلة في الجليلات، الصدّيقة في الصدّيقات، قد يطوف بالبال سؤال: لماذا اختار أئمة الهدى أمّهات أولاد من الأباعد ليكنَّ زوجاتٍ وأمّهاتٍ لأبنائهم، بل لخير أولئك الأبناء، وخير أهل الأرض قاطبة؟ ما الحكمة في أن تكون أمّهات سبعة من اثني عشر إمامًا جواري استرقّتهنَّ الحروب، وحرّرهنَّ صفاء القلوب؛ ليبلغنَ مقامًا ما بلغته إلّا القلّة القليلة من النساء، فإذا هنَّ المختارات المصطفيات، أمّهات المختارين المصطفَين سادة الكائنات؟ ويأتي الجواب ساطعًا كالشمس في رائعة النهار، يضيء عتمة الكون، ويرفع الغشاوة عن الأبصار، إنّها إرادة الباري تعالى لأسباب جعلها فيهنَّ خاصّة، منها أنّ زواج الإمام وهو أشرف الناس حسبًا ونسبًا من جارية مملوكة، لهو الدليل البيّن على أنّ الإسلام لا يفرّق بين بني البشر، فمقياس الفضل هو التقوى والورع لا شيء آخر، فقد قال النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله): "...ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم..."(2)، وجاء في ما نُسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): لعمركَ ما الإنسان إلّا بدينه فلا تترك التقوى اتّكالًا على النسبْ فقد رفع الإسلامُ سلمان فارسٍ وقد وضع الشركُ الشريف أبا لهبْ(3) ويشرق النور العاشر من أنوار أئمة الهدى (عليهم السلام) من (صريا)، وتنبثق آياته من بين يدي تلك الصدّيقة الزكيّة، ويحتضن صفاته والده الإمام التقيّ، فيقيم عليه سُنن الولادة، ثم يعيده إلى والدته باسم الثغر مهنّئًا إياها بمولده المبارك؛ لقد قلّدها وسام الأمومة، ورفع قدرها بتلك المكرمة العظيمة بين الأنام، أن تكون زوجًا لإمامٍ وأمًّا لإمام، وجدّة لإمامين: الحسن العسكريّ وولده الحجّة بن الحسن صاحب العصر والزمان (عليهم السلام). فسلامٌ عليكِ أيّتها الصدّيقة في النساء يوم وُلدتِ من جديدٍ بدخولكِ فناء أهل بيت العصمة، ويوم وَلدتِ لهم سيّدًا من سادات البشرية، ويوم ارتقى ذكركِ عاليًا فوق كلّ قمّة؛ ليغدوَ لواءً يرفرف فوق هامات نساء زمانكِ وما تلاه، قدوةً لهنَّ في القول والعمل والدين المكين، يا أمّ الهادي النقيّ العسكريّ، ورحمة الله وبركاته. ....................................... (1)دلائل الإمامة: ص216. (2)ميزان الحكمة: ج4، ص ٣٦٢٩. (3)ديوان الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): ص216.