رقة القلب وأثرها
قال الله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159). امتاز رسول الله وأهل بيته الكرام (صلوات الله عليهم) بالخُلق الحَسن، ومداراة الناس، وسادوا الخَلق، وفاقت منزلتهم العالمين، ولمّا جعلهم الباري (عزّ وجلّ) قدوة وأسوة لخلقه، فالأحرى بمَنْ ينتمي إلى مدرستهم (عليهم السلام) أنْ يتميّز بخُلقه الرفيع، ويكون ممّن وصفه الإمام عليّ (عليه السلام) بقوله: "المُؤمِنُ بِشرُهُ فِي وَجهِهِ، وحُزنُهُ فِي قَلبِهِ، أَوسَعُ شَيءٍ صَدرًا، وَأَذَلُّ شَيءٍ نَفسًا"(1). فالمؤمن عندما يلقى الناس، فإنّه يلقاهم بالبِشر؛ كي لا يتكدّروا حتى وإنْ كان في حزن. ومن مولانا الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) نستقي الخير ومعالي الأخلاق، فقد تميّز باقر العلم بالعفو، والعطف، وملاقاة الناس بالبِشر والعون، فقد ورد عنه (عليه السلام): "البِشر الحَسَن وطلاقة الوجه مكسبة للمحبّة وقربة من الله، وعبوس الوجه وسوء البِشر مكسبة للمقت وبعد من الله"(2). فمن مقوّمات حُسن العشرة والمداراة، طلاقة الوجه والابتسامة. وجاء في مواقف الإمام الباقر (عليه السلام) مع مَن تَهجّمَ عليه: أنّ رجلًا كتابيًّا هاجم الإمام (عليه السلام) وخاطبه بسوء الكلام قائلًا: ـ أنتَ بقر! فلطف به الإمام (عليه السلام)، وقابله ببسمات طافحة بالمروءة قائلًا: ـ "لا، أنا باقر". وراح الرجل الكتابيّ يُهاجم الإمام قائلًا: ـ أنتَ ابن الطبّاخة! فتبسّم الإمام، ولم يثره هذا الاعتداء، بل قال له: ـ "ذاك حرفتها". ولم ينتهِ الكتابيّ عن غيّه، إنّما راح يهاجم الإمام قائلًا: ـ أنتَ ابن السوداء الزنجيّة البذيّة! ولم يغضب الإمام (عليه السلام)، بل قابله باللطف قائلًا: ـ "إنْ كنتَ صدقتَ غفر الله لها، وإنْ كنتَ كذبتَ غفر الله لكَ"(3). وبُهت الكتابيّ، وانبهر من أخلاق الإمام (عليه السلام)، وأعلن إسلامه. ويُروى أنّ شاميًّا كان يختلف إلى مجلسه، ويستمع إلى خُطبه، وقد أُعجب بها، فأقبل يشتدّ نحو الإمام وقال له: يا محمّد، إنّما أغشى مجلسكَ لا حبًّا منّي إليكَ، ولا أقول إنّ أحدًا أبغض إليّ منكم أهل البيت، وأعلم أنّ طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم، ولكنّي أراكَ رجلًا فصيحًا، لكَ أدب وحُسن لفظ، فإنّما أختلف إليكَ لحُسنِ أدبكَ! فنظر إليه الإمام (عليه السلام) بعطف وحنان، وأخذ يغدق عليه ببرّه ومعروفه، حتى تنبّه الرجل وتبيّن له الحقّ، وانتقل من البغض إلى الولاء للإمام (عليه السلام)، وظلّ ملازمًا له حتى حضرته الوفاة فأوصى أنْ يصلّي عليه(4). بأخلاقه الرفيعة التي ورثها عن جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جمع الإمام الباقر (عليه السلام) الناس وألّف بين القلوب. ........................................... (1)نهج البلاغة: ج2، ص 224، ح330. (2)تُحَف العقول: ص٢٩٧. (3)مناقب آل أبي طالب: ج7، ص333. (4)بحار الأنوار: ج11، ص66.