مؤتزرا كفني

مروة حسن الجبوريّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 128

في الليل ساد الظلام والصمت، ثمّة شيء غريب في سماء مدينتي، سحب سوداء ثقيلة تشعرني بثقل الهموم المتراكمة في قلبي، مثل ما تحمله السماء وتنتظر. خرجتُ من حجرتي، هائمة روحي اليوم، صوت صادر من مئذنة الجامع يطلب من أهل القرية الإكثار من الدعاء، فهناك هزّة أرضية وشيكة، سمعتُ جارتي وهي تصرخ وتطلب من أولادها الخروج إلى الجامع. صرختها أثارت جنوني، لحظتها تذكّرت أشياء كثيرة، طفلتي الصغيرة، زوجي العاجز، أنا، غصّ قلبي بدمعة عيني، هناك هرولة سريعة في الخارج. زوجي كان متّكئًا على جدار الغرفة، جالسًا في مكانه المعتاد، ينفث جسده حرارة مرتفعة، شاحب اللون، متردّدًا، يلفّه صمت رهيب، عيناه ترسم خرائط الموت، وترانيم الأرض تبدأ، كانت ملامحه توحي بالخوف وهو يرتجف، مرّت الدقائق ببطء شديد، انتظرتُ قليلًا! فهل أحمل ابنتي الصغيرة أولًا أم زوجي؟ تنفّستُ الصعداء، يا ربّ ما الأمر؟ في الكوارث يحدث الكثير من الموت أو الفقد، وسعيد الحظّ مَن يخرج من تحت الأنقاض ويستنشق الهواء، في حين هناك مَن يغفو جسده ويُمحى ذكره مع مطلع بصيص النور. كان زوجي خائفًا يترقّب طوق نجاة، طلب منّي أن أخرج مع طفلتي وأتركه هنا حيث السقوط والعدم، قائلًا: دعوني وشأني، فأنا عاجز على كلّ حال، أنقذوا أنفسكم واتركوني. تحيّرتُ، فمَن أنقذ؟ وبمَن أستغيث؟ طفلتي البرعم الصغير، أم زوجي، أم نفسي؟ صور الراحلين ما تزال عالقةً في ذاكرتي، تاركين أُطرها في مخيّلتي يأكلها غُبار الحنين، كانت الأرض تهتزّ بقوة، تشعرني أنّها ترغب باحتضاني بين جدران منزلي، دوّت أصوات ارتطام أحجار منزل الجيران العتيق بسطح دارنا، وسقطت ذرّات التراب ذرّة بعد أخرى. أصوات الطيور وهي خائفة ترتفع في سماء المدينة، الأرض غاضبة، تنفض ما عليها بقوة، شتات العالم في الخارج مليء بالضجيج، أسفل الأرض وأعلاها، الناس يتألّمون، سقطت أحلامهم في لحظة واحدة، حتى المباني تتألّم، فليس لديها خيار آخر غير السقوط، فهو الحلّ. الأزهار تتلاطم مع الرياح، تتألّم هي الأخرى، ترمي أوراقها لتنجو، حتى الألم كان سريعًا جدًا. جاءتنا اللعنة بغتةً، سقطتُ في القاع حيث الأنقاض والحديد والكثير من الحجارة، ابنتي على صدري، آخر كلمة سمعتُها: أمّي التراب في عيني. ليلةً بعد ليلة، ونهارًا تلو نهار، لقد نسيتُ كم لبثتُ تحت الأنقاض، كنتُ أسمع مناجاةً، لعلّ هناك مَن يقاوم، وآخر يرتّل أسماء أفراد عائلته، وصوت من بعيد لشخص يناجي ربّه. أنا لا أتذكّر سوى تلك الكلمات التي تعلّقت بي عندما انتهيتُ من فريضة صلاة الصبح، قبيل السقوط بدقائق: "...اللّهُمَّ إِنْ حالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ المَوْتُ الَّذِي جَعَلْتَهُ عَلى عِبادِكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، فَأخْرِجْنِي مِنْ قَبْرِي، مُؤْتَزِرًا كَفَنِي، شاهِرًا سَيْفِي، مُجَرِّدًا قَناتِي، مُلَبِّيًا دَعْوَةَ الدَّاعِي فِي الحاضِرِ وَالبادِي..."(1). أصداء أصواتنا تختفي، شعرتُ بضربات فوق رأسي، إنّها سقوط الأعمدة، فصرختُ صرخة واحدة بثقل الجبل: "اللّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ، وَالغُرَّةَ الحَمِيدَةَ، وَاكْحُلْ ناظِرِي بِنَظْرَةٍ مِنِّي إِلَيْهِ، وَعَجِّلْ فَرَجَهُ، وَسَهِّلْ مَخْرَجَهُ، وَأَوْسِعْ مَنْهَجَه"(2). في نهاية المطاف بدأتُ أشعر أنّني أفقد نصف جسدي، يقتلني الحنين إلى طفلتي، إلى زوجي، إلى بقيّة عائلتي، في الساعات الأخيرة الحافلة بما فيه الكفاية، هناك مَن قضى نَحْبه، وهناك مَن ينتظر تحت هذه الأنقاض. كم أودّ لو أرجع دقائق بالزمان، فتور العمر لا يُعوّض، لعلّي أروف شروخ الأيام، هناك من بعيد صرخة لطفلة ما تزال تقاوم الموت وتتنفّس تحت هذه الأتربة، بينما أنا فاضت روحي ومعي رسائل الانتظار. ........................................................... (1)بحار الأنوار: ج ٥٣، ص٩٦. (2)المصدر نفسه.