رياض الزهراء العدد 195 شخصيات ملهمة
يمامة من بني المازن
غشاء القلب مزّقه الجوى، إيمانها رُمح في السويداء استقرّ، والصبر كان مرًّا، والمرارة حنظلًا، من ركن موقفها رفعت رأسها ناحية الجيش، فأجالت عينيها في المساحة الممتدّة أمامها التي ملأها الغبار، وراح بعضهم يطرق قدميه هربًا، ثم استقامت واقفة وناظراها مثبتان على أرضية المكان، خطوات أخرى كشفت عن الحرب والكرامة كالطوفان، فمدّتْ يدها لتغيّر خارطة المكان، حتى أبصرت ابنها (عُمارة) خائفًا ينوي الهرب، فبدأت تؤنّبه ليستمرّ حتى لاقى مصرعه، وقد أبرزت شهامةً وفداءً كبيرين على الرغم من اشتداد المعركة حتى قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عنها: "ما التفتُّ يمينًا وشمالًا يوم أحد إلّا رأيتُها تقاتل دوني"(1)، كانت الفيض الواسع من الكرامة الذي سار عبر العصور كشجرة مباركة تمتدّ أغصانها الناعمة لتصنع القوة، ممزوجة بالجمال والكرامة، تلك البذرة التي نبتت منبتًا حسنًا، وأزهرت إيمانًا ويقينًا بأن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّدًا (صلّى الله عليه وآله) رسوله، لتكون (نسيبة الأنصارية) حلقة من التأريخ، فذاكرة التاريخ الإسلامي حفلت بنماذج من النساء اللاتي قلّ أن يجود الزمان بمثلهنَّ، رسمنَ التأريخ العربي قبل الإسلام وبعد ظهوره، وصنعنَ أمجادًا في ميدان الحرب والسلم، ثم حملنَ السيف والكلمة مدافعات عن الحقّ، حتى كُنَّ مصابيح في أزقّة الروح، وعند الحديث عن نساء لمعتْ أسماؤهنَّ في تاريخ البشرية، فلا يفوتنا ذكر (نسيبة بنت كعب الأنصاريّ)، فقد كانت واحدة من امرأتين انضمّتا إلى (70) رجلًا من الأنصار لمبايعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في بيعة العقبة الثانية، ولم تكتفِ بأنّها من المسلمين الأوائل الذين صدقوا النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله) في وقت كذّبه الكثيرون، بل غيّرت مسار حياتها يوم غزوة (أحد)، وتحوّلت من امرأة تساند المقاتلين برعايتهم وتوفير الماء لهم إلى مقاتلة تشارك في غزوة: أحد، والحديبية، وخيبر، وحنين، مثلما شاركت في معركة (اليمامة) التي فقدت فيها يدها، فحُفِر اسمها في التاريخ الذي يشهد على شجاعتها وجسارتها لتُعرف بأنّها الصحابية المجاهدة، فلم تختبر (نسيبة) جراح الحرب الجسدية فقط، بل اختبرت أيضًا فجيعة فَقْد الولد، فقد كانت من المخلصات في نشر الدين، وعاهدت الله على السير قُدمًا في طريق الدعوة، فصدّقت الوعد والعهد، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لابنها (عبد الله بن زيد بن عاصم): "بارك الله تعالى عليكم أهل بيت، مقام أمّكم خير من مقام فلان وفلان، ومقام زوج أمّكَ غزية بن عمرو خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل بيت" قالت أمّ عمارة: (ادعُ الله تعالى أن نرافقكَ في الجنّة)، قال: "اللهمّ اجعلهم رفقائي في الجنّة"، فقالت: (ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا)(2)، فأصبحت قدوةً للنساء من بعدها، فقد برهنت على أنّ الدفاع عن الدين والحقّ لا يقتصر على فئة أو جنس معيّن، ففضل الإسلام لم يقتصر على رفع شأن المرأة، بل إنّه أول دين فعل ذلك ليؤكّد على المساواة في الحقوق منذ أمد بعيد، إذ جاء في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13)، وفي هذه الآية يُبيّن القرآن الكريم أن لا فضل إلّا بالتقوى والعمل الصالح، والدفاع عن دين الله ورفع راية الحقّ إنّما هو واجب على الجميع من دون استثناء، فإن لم يكن اليوم بحدّ السيف، فهو بحدّ القلم الذي أصبح أقوى وأشدّ. أمّا الآن فماذا عنّا؟ هل نتعلّم من هؤلاء النساء اللواتي بذلنَ حياتهنَّ بعدم الاستسلام والصبر والمثابرة والمحبّة والتضحية، علينا أن نكون تلك الحلقة التالية التي تشدّ على الحلقة السابقة التي رسمت بصمة في تاريخ البشرية، ممّن بذلنَ الغالي والثمين من وقتٍ وجهدٍ لإضافة الأفضل إلى حياتهنَّ وحياة الآخرين. ......................................... (1)أنساب الأشراف: ج١، ص ٢٥٠ـ ٣٢٦. (2)سبل الهدى والرشاد: ج ٤، ص202.