آباء وأمهات يملؤون الشوارع ودور المسنين

عبير عبّاس المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 132

هو ذاك الشريط الأصفر الذي يحدّد مسرح الجريمة؛ للوقوف على أسبابها عن طريق جمع الأدلّة وتحليلها، والوصول إلى الجاني، ومن ثمّ معاقبته تحقيقًا للعدالة، ولإصلاح ما فسد من سريرته. نحاول أن نضع شريطًا أصفر حول مسرح أيّ جريمة، سواء كانت مادّية أم معنوية؛ لحصر أسبابها، محاولين منع تكرارها عن طريق وضع حلول وأفكار ومقترحات لمحاربتها، وعدم تكرارها، والحفاظ على الأمن المجتمعي، والحفاظ على الروح من تلوّث فطرتها بنوازع إجرامية مكتسبة. بعد أن بلغوا من الكِبر عتيًّا، كانوا يعتقدون أنّ أولادهم سيبرّون بهم ويرعونهم، مثلما ضحّوا هم من أجل سعادة أولادهم بالسهر والتعب والرعاية والتربية، وإذا بهم يُتركون في دار لرعاية المسنّين في أحسن الأحوال إن لم يتركوهم في الشارع لمستقبل مجهول. تمدّدت اللحظات والثواني، واستحالت إلى سنين طويلة، والأب أو الأمّ ينتظران أن يتّصل بهما أحد أبنائهما، أو يأتي لزيارتهما في دار المسنّين، لكن عبثًا كان انتظارهما، فختما الانتظار بالدعاء لأولادهما بالهداية والصلاح! فلا عجب من ذلك، فعلى الرغم من جحود بعض الأبناء العاقّين، إلّا أنّ قلب الوالدين أحنّ وأرقّ ممّا يتصوّر الأبناء. عقوق الوالدين جريمة كبيرة وعظيمة وإن لم يعاقب عليها القانون الوضعيّ، إلّا أنّ القانون الإلهي جعل جزاءه وخيمًا، فهو من الكبائر، ويأتي بعد الشرك بالله تعالى، فتأمّلوا! وعقوق الوالدين باختصار هو كلّ ما يؤذي الوالدين من قول أو فعل: و(أصل العقّ الشقّ، وإليه يرجع عقوق الوالدين وهو قطعهما؛ لأنّ الشقّ والقطع واحد، يُقال: عقّ ثوبه، إذا شقّه، عقّ والديه يعقّهما عقًّا وعقوقًا)(١). إنّ أدنى مراتب العقوق هو كلمة (أفٍّ)، كلمة من حرفين قد تودّي بقائلها إلى السقوط في هاوية العقوق، فقد قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء:23- ٢٤)، وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "لو علم الله شيئًا أدنى من أفٍّ لنهى عنه، وهو من أدنى العقوق، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدّ النظر إليهما"(٢)، فمن مصاديق عقوق الوالدين النظرة الحادّة، والكلام الحادّ، ورفع الصوت عليهما، وعدم إطاعتهما، وغيرها، فعنه (عليه السلام) أنّه قال: "مَن نظر إلى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاةً"(٣)، وعنه (عليه السلام) أيضًا: "إذا كان يوم القيامة، كُشف غطاء من أغطية الجنّة، فوجد ريحها مَن كانت له روح من مسيرة خمسمائة عام، إلّا صنفًا واحدًا" فقيل له: من هم؟ قال: "العاقّ لوالديه"(٤). وديننا دقيق جدًا في رعاية الوالدين، وعدم عقّهما حتى بعد وفاتهما، فعقوق الوالدين بعد موتهما يكون بعدم ذكرهما بالدعاء والأعمال الصالحة. والتراث الإسلامي زاخر بالأحاديث والروايات الشريفة التي تنهى عن عقوق الوالدين، وذكرت عقوبته في الدنيا والآخرة، إلّا أنّ قسوة قلوب بعض الأبناء في الوقت الحاضر تجاوزت النظرة الحادّة أو قول (أفٍّ) لهما إلى الصراخ والتعدّي عليهما بالضرب والطرد من البيت، ورميهما في قارعة الطريق، وفي أحسن الأحوال رميهما في دار لرعاية المسنّين، وأخذت ظاهرة رمي الوالدين في دور الرعاية بالازدياد بشكل لافت للنظر، بل وصلت وقاحة بعضهم إلى أن يتّصل بنفسه على دار من دور الرعاية ليأخذوا أحد والديه من دون أن يتعب نفسه بإرساله إليها. وأمّا أسباب هذه الظاهرة فكثيرة، وهي ليست مبرّرة بكلّ تأكيد، إنّما لانتشار حالات كهذه في مجتمعنا الملتزم، وجب علينا البحث عن أسبابها لمعالجة تلك الحالات ووأدها في مهدها قبل أن تتفاقم وتتحوّل إلى قنبلة مجتمعية موقوتة، وبعض هذه الأسباب قد تكون من الآباء أنفسهم، كالتهاون في تربية أبنائهم، أو تدليلهم الزائد، أو عدم احترام والديهما أمام الأبناء، أو قد تكون الأسباب من الأبناء أنفسهم، وهي غالبًا تكون بسبب البُعد عن الله تعالى، وصحبة السوء، والتأثر بالأفكار الدخيلة المسمومة التي تحثّ على عقوق الوالدين تحت مسمّى الحرّية الشخصية والتحضّر، بهدف تفتيت البِنية الأسرية في المجتمع وهدمها من الداخل؛ لأنّ هشاشة الأسرة تعتمد أساسًا على عدم احترام الوالدين، وجحود حقّهما، ونكران فضلهما، ثم يمتدّ هذا الجحود من نواة الأسرة إلى المجتمع، فيكون هشًّا ويسهل كسره. ومعالجة حالات خطيرة كهذه يكون بتضافر الجهود الفردية والمجتمعية لحماية الأسرة، وزرع الثوابت في النشء عن طريق التربية السليمة، وتأكيد ذلك في مناهج الدراسة أو الإعلام، وكذلك سنّ قوانين رادعة لكلّ مَن يتهاون في حقوق والديه، وليس العكس مثلما يطالب الأبناء الآن. ولنعلم جيدًا أنّه مهما فعلنا من برّ وإحسان للوالدين، فهو قليل جدًّا، ولا يُقارن أساسًا بحبّهم وتعبهم وسهرهم ورعايتهم لنا، ولا يمكن مكافأة لحظة خوف واحدة عاشوها من أجلنا حينما نمرض أو نتأخّر عند العودة إلى البيت، أو يصيبنا سوء ما، فهذه الدنيا التي نعيشها لا تسع رفعة أكفّ الوالدين بالدعاء لحفظنا. ................................................................ (1)العين: ج1، ص٦٣. (٢)الكافي: ج٢، ص ٣٤٩. (٣)المصدر نفسه. (٤)جامع السعادات: ج٢، ص٢٠٢.