النصر بلغة أخرى

زهراء سالم الجبوريّ/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 211

في وقتٍ ما، وفي ليلةٍ بيضاء مضت، كان صوت البنادق صديقنا. كنّا نتجوّل في زوايا السواتر ونحن نصافح كفّ الشهادة التي تنقلنا إلى هناك، حيث الطمأنينة والسكينة والسلام. ونتجاوز أنا وصديقي محطّات الدنيا الفانية، ونطرق أسماع السماء بضحكات عالية لا تفقه لغة اليأس والهوان. فعاد ليلنا يوثّق صور تحوّل تلك المناطق القاحلة إلى جنائن من الزهور بدمائنا المتناثرة على جبينها. في كلّ مرّة يحين قطاف الرؤوس التي أينَعت، إلّا أنّها كانت تستتر خلف أقنعة الجدران، من شدّة خوفها تحاول أن تتخلّص من خيالها الذي يُعدّ بمنزلة طوق رعب. لقد انتصر خوفها عليها، ولقيت حتفها الأخير. لا شيء أجمل من رصاصتنا حين تمرّ في طرق رؤوسهم، وتفتح أزقّتها السوداء المغلقة، كأنّها تؤكّد لنا في كلّ مرّة بأنّ الملائكة في هذه الساعات على أهبّة الاستعداد لنقلهم إلى قاع جهنّم زُمرًا وفُرادى بأسماء جديدة، وأشكال جديدة، وألوان جديدة، والأرض والقلوب تحتفل لبلوغ النصر أشدّه، وتلوّح للوطن أنّنا نتفيّأ هنا، نموت ونحيا، نموت ونحيا، والشهادة تضمن لنا الصعود إلى السماء، في جنّة عالية، قطوفها دانية، لا خوف علينا ولا نحن راحلون، فالسواتر، والرسائل، والصور، والتسجيلات الصوتية، هي تلك الذكريات التي أودعناها عيون أحبّتنا كلّما زارهم الحنين، وغرس حوافر الألم في صدورهم المتّقدة من الفراق، فاللقاءات في قلوبنا تتجدّد وإن كان مستحيلًا الرجوع إلى عالمنا، لكنّنا أحياء عند ربّنا، لا ينقصنا شيء، فهذه ابتسامات الشهداء والصدّيقين تزهر على ثغورنا في كلّ حديث يجمعنا معهم، مثلما لو أنّنا نعرف بعضنا منذ آلاف السنين. تشدّنا أشواقنا، خُطانا، فنرجو أن نعود إلى ذلك الطريق الذي كنّا نسير فيه لنشدّ على سواعد الأخوة. إنّا نراهم في ظلام الأيام يحاربون ويهتفون على الرغم من انكسار الضوء في مدن العراق الجريح. والله إنّا منتصرون، وهم لا يكترثون لرصاص الشياطين من فوقهم. هكذا هم، يحصون جثث الأعداء المتعفّنة، والمرمّلة بالسواد من لون أفعالهم، تسحبها الملائكة في كلّ آنٍ نحو قعر الجحيم، وهم يتوسّلون بالربّ كي يعيدهم إلى هناك، حيث كانوا كي يفرّوا بأرواحهم بصمت؛ لينقضوا عهد الحاكم الخائن الذي سيلتحق بهم هناك. وإبليس من بعيد يشير إليهم، ويبتسم!! أين البقيّة؟! ويعاود الابتسامة ثانيًا. لا تكترث، ها هم قادمون، يلوذ بعضهم ببعض، حطبًا لجهنّم. لقد غرّتهم الوعود الكاذبة، فالجنّة قد استُبدلت بجهنّم. حقًّا تليق بهم.