"حسين الصلاة"
- "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل"(1). هو نداء الصلاة يتردّد فوق المآذن عند كلّ موعد عتيد. هي دعوة الخالق للإنسان بأن ينفض يديه من غبار الدنيا؛ ليلتحق بموكب الملائكة المؤتمّين بإمام زمانهم، مقتديًا بأذانه وتكبيره وركوعه وسجوده، ولسان قلبه يلهج: "...السلام عليكَ حين تقوم، السلام عليكَ حين تقعد، السلام عليكَ حين تقرأ وتبيّن، السلام عليكَ حين تُصلّي وتقنت، السلام عليكَ حين تركع وتسجد، السلام عليكَ حين تهلّل وتكبّر، السلام عليكَ حين تحمد وتستغفر..."(2). وتتمثّل في عرض الأفق مشهدية الصلاة الدامية.. ربّاه، أيّ صلاةٍ تلك؟! لا تزال أصداؤها تتردّد ما بين أودية التاريخ وقِمم المستقبل، وأطياف أبطالها تمسح على عيون البشر بظلّ الملكوت؛ لتتراءى لهم شامخةً فارعةَ الوجود، تشير بساطع النور إليه! وهو.. شمس ذاك الزمان وبدره، بل شمس كلّ زمان.. بل إنّ الشمس كوكب لا يشرق إلّا على نصف البشرية في آن، أمّا هو، فمشرق مذ كان على كلّ قلب وفي كلّ وجدان.. ومن موقفي خلف إمامي أرى ذلك المكان... مَن قال إنّ العين لا تبصر إلّا ما تحدّه الحواسّ؟! إذًا، كيف تراءى ذاك المشهد لبني الإنسان؟! كيف زلزل صمت القهر وفجّر عتمة الطغيان؟! ولم تزل كلمات ذاك الصاحب الوفيّ (أبو ثمامة الصيداويّ)، تقرع أفئدة المصلّين منذ ذلك الحين، وهو يخاطب إمامه قائلًا: ـ يا أبا عبد الله، أنفسنا لنفسكَ الفداء، هؤلاء اقتربوا منكَ، لا والله لا تُقتل حتى أُقتل دونكَ، وأحبّ أن ألقى الله وقد صلّيتُ معكَ هذه الصلاة. هو ذا الحسين (عليه السلام)، يرفع رأسه إلى السماء ويجيب: ـ "ذكرتَ الصلاة، جعلكَ الله من المصلّين الذاكرين، نعمْ هذا أوّل وقتها"(3). وأمر (عليه السلام) بالصفوف لتصطفّ، ووقفت كتيبة للصلاة خلف إمامها، وكتيبة للصلاة حوله، نصفٌ في نصف.. موقفٌ تقشعرّ له الأبدان.. أيّ صلاةٍ هذه والحرب ميدان؟ والعدوّ متربّص بأهل الإيمان، يشحذ كفره على حدّ حقّهم؟ فكلّما ثبتوا على صراطهم المستقيم، تحوّلت الأسنّة إلى قرون شياطين، والسيوف إلى بريق عيون الحاقدين! أيّ صلاةٍ يخشع فيها القلب ولا يشغله شاغل عن ذكر الربّ؟! وفي المدى سهام تتربّص وتنطلق وتصبّ، وصدور الحُماة تنتصب في وجه كلّ معتدٍ أثيم، سوّلت له نفسه اغتيال الصلاة لا المصلّين؟! مَن قال إنّ الصلاة يومئذٍ كانت حكرًا على مَن وقفوا خلف الإمام؟! أولئك كانت صلاتهم ظهرًا وشكرًا، أمّا من التفّوا حوله وحصّنوه بأجسادهم، فقد كانت صلاتهم وِترًا وصبرًا.. ولا تزال جراح (سعيد بن عبد الله الحنفيّ) تشهد أنّه سقط أمام الإمام مع آخر لفظٍ به تشهّد، ليلفظ آخر أنفاسه بين يديه ويتشهّد، ومع هذا يسأل والروح قد بلغت الحلقوم: ـ أوفيتُ يا بن رسول الله؟ فيجيبه الإمام والدمعة تسبق الآه، ويرسل فيض أنواره في كلّ اتّجاه، ويردّد ليسمع القاصي والداني، وأهل الأرض والسماء: ـ "نعم، أنتَ أمامي في الجنّة"!(4). أيّ شهادةٍ هذه من سيّد الشهداء، وأيّ شهادةٍ حازها (سعيدٌ) بين يدي سيّد الشهداء؟! لقد خطّت دماؤه الزاكية اسمه بأحرفٍ من نور، ومَهَر تلك الصلاة المشهودة بأغلى المهور، فحقّ له أن يكون بحّارًا في سفينة النجاة، ينصب على قلوعها شراع الحياة، قميصَه الدامي الذي فدى إمام الصلاة؛ ليبقى أبد الدهر شاهدًا على أنّ الصلاة عمود الدين، لا يقوم إلّا بها، ولا تقوم إلّا به، ولا تمتلئ أشرعة الحياة إلّا بالنفوس والأرواح المطمئنّة وهي تمخر في عبابه، دعاها داعي الصلاة فلبّت، لتثبّت دعائم الدين التي زعزعتها أنواء الباطل، فتكون للحقّ مشاعل، ولتشرق في وجه كلّ ظلمةٍ داجيةٍ تغزو القلوب والمعاقل، تستلّ نورها الوضّاء من ذلك النور الكامل، الذي يتوهّج ويزداد منذ عاشوراء، لا شمسًا ولا بدرًا، بل حسينًا يبلغ بنوره كلّ أصقاع الدنيا، فهو كوكبٌ ليس كمثله كوكب، قد خرق أنظمة الكون بوجوده الأرحب، وانطلق من يمين العرش ليبلغ كلّ مكانٍ وزمانٍ، فحسين الصلاة تجسيدٌ لحقيقة الإنسان. .................................................................... (1) أذان الشيعة. (2) الاحتجاج: ج ٢، ص ٣١٦. (3) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص ٥٣٥. (4) بحار الأنوار: ج ٤٥ ، ص ٢٢.