البَدَاء
هل نحن قادرون على تغيير مصائرنا في هذه الحياة؟ أو أنّ هناك قدراً مقدوراً لا يتبدل ولا يتغيّر مهما عملنا؟ إنّ للإنسان مقدرة واسعة على جعل تقدير مكان تقدير، وقضاء مكان قضاء، وهذا كلّه بمشيئة الله سبحانه وإرادته، حيث إنه سبحانه زوّد العبد بحريّة ومشيئة بأن يغيّر تقديراً مكان تقدير آخر لقوله تعالى: (..إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..)/ (الرعد:11)، (..ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..)/ (الأنفال:53)، (..وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)/ (الطلاق:2). إنّ في هذه الآيات دلالات واضحة على أنّ لإرادة الإنسان واختياره مدخليته في سعادته وشقائه، كيف ذلك؟ إنّ الله تعالى بحسب حكمته الحكيميّة جعل تقدير العباد على قسمين: الأول: تقدير قطعي لا يقبل المحو والتغيير والذي يعبّر عنه القرآن الكريم بأمّ الكتاب، وذلك كسنّته سبحانه في موت الإنسان وفنائه، قال سبحانه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)/ (الزمر:30)، فإنّ عدم خلود الإنسان من السنن القطعيّة التي لا يمكن أن تتغيّر أو تتبدّل بحال من الأحوال. والثاني: هو تقدير معلّق غير قطعي مشروط بشرط خاص، والذي يعبّر عنه القرآن الكريم بلوح المحو والإثبات، (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)/ (الرعد:39). فلو كان كتب وقدّر أنه من الصالحين فهو مشروط بعدم ارتكاب هذا العبد ما يخرجه من الصلاح، وإذا كتب وقدّر خلافه فهو أيضاً مشروط بعدم تعاطيه ما يدخله مدخل الهدى، كلّ ذلك لحكمته سبحانه حيث أبقى للإنسان مساحة من الاختيار ورسم نهايته. إنّ هذه السنّة لله تعالى تمكّن الإنسان من تغيير مصيره، وتجعل بصيص أمل للمذنبين لأن لا يقنطوا وينقطع رجاؤهم من رحمته سبحانه، بل تبقى إضبارة أعمالهم مفتوحة حتى اللحظات الأخيرة من أعمارهم، كما هي إنذار للصالحين بأن لا يغتروا بأعمالهم الصالحة؛ وذلك لأن العبرة في الأمور بخواتيمها، فقد يصدر عن العبد ما يُغضب الله تعالى في آخر حياته، فيتغيّر تقديره عند الله سبحانه من خاتمة صالحة إلى خاتمة سيئّة. ولهذا نرى أنّ الروايات كالآيات كانت تركز على أنّ الإنسان بإمكانه تغييّر مصيره، وقد تضافرت الروايات عن النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المقام، فقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي (عليه السلام) أنه سأل رسول الله( صلى الله عليه وآله) عن هذه الآية - (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(1) - فقال له: "لأقرن عينيك بتفسيرها ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها، وبر الوالدين، واصطناع المعروف، يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء".(2) إذن للأعمال الصالحة أثر إيجابي في حياة الإنسان، وفي مصيره وحسن عاقبته الحسنة، ويدلّ على ذلك الآيات في قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)/ (النحل:112). وخلاصة القول أنه ليس للإنسان مصير واحد لا يردّ ولا يبدّل، بل ما كُتب وقُدّر يتغيّر إذا ما راقبنا أفعالنا وحاسبناها وابتعدنا عمّا يسقطنا من عينه تعالى. فالإنسان ليس مسيّراً بأفعاله، وأنه لا يفعل إلّا ما قُدّر له، بل هو موجود مختار في دائرة المشيئة والقدرة الإلهية، وبهذه الإرادة والاختيار اللّذين أعطاهما الله له بوسعه أن يغيّر التقدير بصالح الأفعال أو بسيئاتها، وهذا ما يعبّر عنه بـ (البَدَاء). ............................... (1) (الرعد:39). (2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج7، ص436.