مارسي طقوس الشعر وكوني أما بليغة
من الفنون البلاغية التي كان لها منذ القدم التأثير المشهود في العملية التربوية وترسيخ القِيم في النفس البشرية هو الشعر والقصّة، فهما كفيلان بخلق عالم بديع وجميل في مخيّلة المتلقّي، عالم تتصارع فيه قوى الشرّ والخير لتنتصر فيه قوى الفضيلة دومًا، حتى لو كان الواقع مغايرًا لهذا المفهوم أحيانًا، لكنّه يخلق نوعًا من الهدوء والسكينة والاطمئنان النفسي، بخاصّة إذا كان المتلقّي صغيرًا، فأنّه يسهل التأثير في عوالمه الخَصبة. الشاعر يمتلك خلفيّة واسعة من القدرات البيانية، يستطيع عن طريقها نقل الصورة بطريقة إبداعية مؤثّرة، وهي تقنية تربوية مدروسة بعناية، وفاعلة منذ بدء الحضارات، إذ كانت أداة العقل والتخيّل والفنّ. صوت الأمّهات وهنَّ يردّدنَ الأهازيج قبل النوم، أو عند الفرح واللعب، وما يرافق ذلك من عبارات شعريّة لطيفة، يُضفي على البيت طاقة إيجابية تنسج حبالًا من الودّ، وتشدّ أواصر التواصل بين الأمّ والطفل؛ لذلك نراه يغفو وينام لشدّة الطمأنينة التي تحيطه في تلك اللحظة، وهذا يُعدّ نوعًا من أنواع الذكاء التربوي الذي تتميّز به الأمّ المربّية عن غيرها، إذ تستطيع هذه الأمّ تغيير الكثير من العادات السلبية، والتشجيع على اكتساب العادات المرغوبة عبر هذه الأهازيج، وبهذا تبذر البذرة من أجل البحث والتحقيق، وتعلّم فنون البلاغة والشعر والنثر التي تخلق الأرضية المناسبة للتلقّي النوعيّ. من الشواهد الإنسانية التي امتازت بهذه الصفة الراقية هي السيّدة الجليلة أمّ البنين (سلام الله عليها)، حيث استطاعت ببلاغتها خلق أداة إعلامية شمولية قادرة على مخاطبة العقل، واحتواء العاطفة، وإثارة الذوق الرفيع، وإشباع غريزة حبّ الجمال، وتغيير السلوك الفردي، والتأثير في السلوك الاجتماعي؛ لذلك بقيت وستبقى ما بقي الدهر. كانت (سلام الله عليها) سيّدة البلاغة والفصاحة في قومها، حتى إنّها أبكت ألدّ الأعداء (مروان بن الحكم) عندما كانت ترثي أبناءها، وربّت مولانا أبا الفضل العبّاس (عليه السلام) على ذلك، حيث استطاع أن يسجّل في ملحمته الخالدة وفي حالة من حالاته الحرجة جدًّا، وهي اللحظة التي فَقَد فيها ذراعه اليمنى، أبياته الخالدة: واللهِ إن قطعتُمُ یمیني إنّي أحامي أبدًا عن دیني وعن إمامٍ صادق الیقین نجل النبيّ الطاهر الأمین(1) فهو (سلام الله عليه) كان يتميّز بالبصيرة، ومدركًا عميق الإدراك أنّ القضية العظيمة لا تُخلّد إلّا لو اکتست بحِلیة فنّية تترك أثرها عميقًا في الذات البشرية التي ما انفكّت تبحث عن الإبداع. ..................................................... (1)بحار الأنوار: ج ٤٥ ، ص ٤٠.