تجارة لن تبور: زكاة المجالس

مروة حسن الجبوريّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 147

الحاجّ أبو محمّد الذي بلغ من العمر عتيًّا وقف في نهاية طابور الصرّاف الآلي ينتظر دوره، يدير المسبحة في راحة يديه ويعود بذكراه مرّة أخرى. تقف أمامه امرأة مع طفلها النائم في عربته، ومن بعيد في منتصف الطابور هناك سيّدة طاعنة في السنّ تنتظر أيضًا، أخرج من جيبه دفتر الحسابات الشهرية ليرى هل يكفيه دخله الشهري هذا الشهر أو يقترض كعادته. بعد مرور ساعة ونصف اقترب من الشاشة، كاد الحرّ أن يقتله، وضع البطاقة، فصاح الصرّاف الآليّ: عذرًا، ليس هناك نقود في هذه البطاقة، فالحساب مقيّد. حاول مرّة أخرى، ارتجفت يداه وسقطت البطاقة من يده متمتمًا: أرجوكَ لا، فهناك مَن ينتظرني، هناك وعود قطعتُها، هناك أشياء قد دوّنتها لابدّ من تنفيذها اليوم... ثم ضرب على الأرض برجله بغضب كبير، وأخرج دفترًا من جيبه ومزّق أوراقه ونثرها في الهواء قائلًا: مثل هذه الأوراق تتمزّق الأمنيّات، فلا جسد يعين، ولا مصروف يُستعان به. دموعه كانت تحرق جفونه، ولا أحد يعرف قيمة هذه الدموع غير تلك السنوات التي قطعها في انتظار القبض، وعندما حان وقت القبض كانت النتيجة كالعصف المأكول. رجع خائبًا يتحسّر، فثمّة أمنيّات معلّقة، وبقايا من النذور في ذمّته، أخذ يتوسّل بصاحب مناسبة اليوم أن يرزقه وأن يكون على العهد في كلّ عام. بخطوات ثقيلة وصل إلى داره، فاستقبله حفيده (حسن) قائلًا: ـ جدّي، تعال وانظر، فهناك جائزة. كفكف دموعه حتى لا يشعر أحفاده بحزنه، وأكمل مسيره مع (حسن) حفيده الأكبر. ـ أيّ جائزة هذه يا صغيري؟ ـ جدّي، لقد شاركتُ في مسابقة (الفتى الصغير) الإلكترونية، وكانت إجاباتي كلّها صحيحة، ألا تذكرها؟ المسابقة التي ساعدتني في حلّ أسئلتها الدينية. ـ بلى، بلى تذكّرتُها، وهل فزتَ يا حسن؟ ـ نعم يا جدّي، ونصف المبلغ هدية لكَ ونصفه الآخر لي. شعر الحاجّ أبو محمّد أنّ هذه الجائزة قد جاءت من السماء قبل أن تكون من الأرض، فقبّل يده ثلاث مرّات شكرًا لله تعالى على هذه النعمة قائلًا: هناك مَن يصرف بدون الصرّاف الآلي وبلا حساب، شكرًا لله يا صغيري، إنّ هذه الجائزة من الله سبحانه، تهيّأ يا ولدي، فها هو شهر محرّم قد أقبل، وهذه الأموال سنصرفها في إعداد مجلس العزاء كعادتنا في كلّ عام، حيث نَفِي بالعهد ونقدّم العزاء. فقال حسن: جدّي أين دفتر الحسابات الذي سجّلت فيه ما يلزمنا عندما ذهبتَ لاستلام الراتب؟ بالمناسبة، أين الراتب؟ أجهش أبو محمّد بالبكاء وأشار بيده إلى كربلاء: الخير كلّه في خدمة الحسين (عليه السلام)، لقد منحني راتب شهرين، ولكَ أيضًا يا حسن. خرجا من المنزل معًا، أحدهما راح يجهّز للعزاء، والآخر لنشر السواد في محطّة عاشوراء.