رياض الزهراء العدد 196 شخصيات ملهمة
السيدة (شاه زنان).. أَبهى صور اللطف الإِلهي
من بلاد الفرس، من بقعة قصيّة جدًا، حيث لم يتبقَّ سوى خيالات عالقة على جدار الذاكرة القديم، وأطياف تلوح، فتعود بالذاكرة إلى حيث تلك الرؤيا التي رفعتها من مجرّد أميرة إلى سيّدة النساء، هبّت واقفة تستقبل ضيوف رؤياها: نبيًّا هو خاتم المرسلين كلّهم وبجانبه سيّد شباب أهل الجنة بطلّة تسلب الناظر عقله وتشرح الصدر فرحًا، خطت أقدامهم عتبة الدار وجلسوا، فإذا بنبيّ الكون (صلّى الله عليه وآله) يتقدّم لخطبتها لريحانته الحسين (عليه السلام)، فلمّا أصبحت، كان ذلك مؤثرًا في قلبها، وقالت لنفسها: ما كان لي خاطب غير هذا، كانت تراقب زفّة الشمس المتهادية، وتتأمّل رؤياها، تفكّر في كلّ شيء يمكن أن يخطر على بال إنسان راوده حُلم فجعله مسلوب العقل والقلب، ولمّا كانت الليلة الثانية رأت السيّدة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) قد أتتها وعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم قالت لها: "إنّ الغلبة تكون للمسلمين، وإنّكَ تصلين عن قريب إلى ابني الحسين سالمةً لا يصيبكِ بسوء أحد"(1)، ففزعت من منامها وهي مدركة أنّ ما كان بالأمس واليوم ما هو إلّا حقيقة، فإذا بالعسكر قد ورد، وشاء الرحمن أن تكون الغلبة للمسلمين، فسارت نساء الدار بخوف، لا يعلمنَ ما المقدّر لهنَّ بعد هذه اللحظة، وبعد أن حطّت أقدامهنَّ في المدينة المنوّرة، وقفنَ ينظرنَ إلى مصيرهنَّ إلى ماذا سيؤول، فلمّا وقعت الأنظار عليها، غطّت وجهها، وكانت بنات الملوك يخيّرنَ، فجاءت حتى وضعت يدها على رأس الحسين (عليه السلام)، فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): ما اسمكِ؟ فقالت: (شاه زنان)، فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): بل شهربانويه، ثم قال للحسين (عليه السلام): "يا أبا عبد الله لَتلدنَّ لكَ منها خير أهل الأرض"(2)، هنا أتى الجواب يطمئن قلبها الذي أصابه الانجماد، لقد كان صوت أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنسبة إليها كصوت الحياة، حتى مرّ الوقت سريعًا، وحملت السيّدة (شاه زنان) بالإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام)، وكان مولده عام (38هـ)، وقد أنشأ أبو الأسود الدؤلي في وصفه قائلًا: وإنّ غلامًا بين كسرى وهاشمِ لأكرم مَن نِيطت عليه التمائم(3) فحين يهبّ نسيم اللطف، تأوي الأرواح إلى طمأنينة دائمة، فإذا أراد اللطيف أن يكرم، جعل مَن لا ترجو الخير منه سبب أعظم العطايا التي تنالكَ، حتى جعل عباد الله يرقبون تلك الألطاف ويبصرونها، فعندما أراد اللطيف أن يخرج سيّدة قومها من مُلكها، أغدق عليها باللطف، فجعل مُلكها ضعفين، وتوّجها بنور الإسلام، ووهبها خير الأبناء، وخيرة الأزواج؛ ليميّزها من بين النساء لتكون ذات مقام في موقف ما ظنّت أنّه سيكون رفعةً لها، فكان بمشيئة الله تتويجًا لها، فقد بادر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى تزويجها من ولده الإمام الحسين (عليه السلام)، مثلما عهد إليه بالإحسان إليها، لتكون السيّدة (شاه زنان) الرابطة المقدّسة بين العرب والفرس، فقد تفرّع منها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ابن الخيرتين، وأبو الذرّية الطاهرة التي أمدّت العالم بجميع عوامل الهداية والوعي والرشاد، وقد احتفى أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسيّدة (شاه زنان)، وذلك لعلمه بإيمانها ووفور عقلها، أمّا مكانتها عند الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد أحاطها بهالة من العناية والاحتفاء والتكريم، وغذّاها بتعاليم الدين الحنيف وجوهره، حتى زهدت بما كانت فيه من المُلك والسلطان، والترف والنعيم، وأنساها قصور المدائن ومروج كابل. إنّ كلّ شيء في هذا الوجود خاضع لمشيئة الله تعالى وإرادته، وإنّ الإنسان مهما اعتمد على الوسائل الوثيقة التي يحسب أنّها تدرأ الأخطار عنه، فقد تنقلب عليه فيكون حتفه ونهايته بها، وربّما يكون فيها رفعته وعزّه، مثلما كان للسيّدة (شاه زنان) من مقام نالته بلطف الله سبحانه، ونور أضاء محيّاها، فقد تفرّع من هذه السيّدة الكريمة الأئمة الطاهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا. ..................................................................................... (1)بحار الأنوار: ج46، ص١١. (2)الكافي: ج1، ص٤٦٧. (3) المصدر نفسه.