رياض الزهراء العدد 91 أنوار قرآنية
شَذَراتُ الآيَات...28
قال تعالى: (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)/ (النور:44، 45) (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) إنّ سرّ ذكر القرآن الكريم لهذا الموضوع بعد الحديث عن السحب وهطول الأمطار هو إشارة إلى تأثير تعاقب الليل والنهار في حدوث التغيّرات الجويّة، وهي تعني يُذهب بالليل ويأتي بالنهار وبالعكس، وينتج عن هذه العمليّة أنّ الكرة الأرضيّة تكوّن دورات ذا حركة سنويّة، فهي تدور كلّ 365 يوماً دورة واحدة حول الشمس، ودورة أخرى حول ذاتها؛ لذا نتج عن ذلك هذا التعاقب الذي يعدّ من أسباب حدوث الظواهر الجويّة من أجل أن تكون في ذلك عِبرة، فقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)، في هذه الآية يُريد القرآن منّا أن نتأمل في كلّ حوادث الكون ووقائعه ونكتشف أسبابها وسرّها وحكمتها، مثلاً لا نكتفي بالقول إنّ الأمطار والثلوج في هذه السنة كانت أقلّ من السنة السابقة، بل نتعمّق في النظر إلى ما في ذلك من حكمة، وأن لا تكون نظرة عابرة لنعي في آخر الأمر أنّ الكون كلّه في يد قدرة واحدة ومشيئة واحدة، هي التي تدبّر هذا الكونِ هي مشيئة الله (عزّ وجل) وقدرته.(1) تحدّثت الآيتان السابقتان عن التغيّرات والظواهر الجوية، وهدفهما إظهار قدرة الله (عزّ وجل) ووحدانيته، أمّا هذه الآية فتحدثت عن خلق الحيوانات، وهو ما يُسمّى في وقتنا الحاضر بعلم الأحياء، والهدف من ذلك ليس معرفة معلومات عن هذه المخلوقات فقط بل هي إثبات لوجوده (عزّ وجل). إذن فهي آيات إلهيّة تُظهر قدرة الباري تعالى وعظمته، وإضافة إلى ذلك تتضمن موضوعين آخرين، أولهما أنّ أصل حياة الحيوانات المتحركة هو الماء، والثاني أن هذه الحيوانات جميعها سواءً كان الزاحف منها أم الماشي، ذا الرجلين أم الأربع قد خُلقت بمشيئة الله (عزّ وجل) وقدرته.(2) أمّا معنى الماء في الآية (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) فقد ذكر بعض المفسرين: أنّ الماء هو النطفة، وقال آخرون إن المقصود هو الماء؛ لأنه أول مخلوق والإنسان خُلق منه، ولكن هناك أحياءً مجهريّة لم تُخلق من ماء تكون ذات خليّة واحدة، وأخرى تُخلق من انقسام الخلايا.(3) وأراد به كلّ حيوان يدبّ على وجه الأرض ويشاهد في الدنيا، فيكون تنزيلاً للغالب منزلة الكلّ؛ إذ إن هناك من الحيوانات ما لا يتولد من نطفة، وقيل: إنّ أصل جميع الخلق لابدّ من أن يتكوّن من شيء، وذلك هو الماء. بعدها يذكر القرآن الكريم قدرته (عزّ وجل) التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات في أشكالها وحركاتها وسكناتها، وأنها من ماء واحد، ثم فصّل أقسام ما يدبّ على وجه الأرض، فقال: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) كالحيّات وبعض الديدان وغيرها من الزواحف، وتسمية حركاتها (مشياً) مع كونها تزحف زحفاً من باب المجاز للمبالغة في إظهار قدرته (عزّ وجل)، وأنها مع عدم وجود آلة مشي فكأنها تمشي. ثم قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) كالأنعام وسائر الدواب. لقد قدّم الزاحف على الماشي؛ لأنّ المشي بلا آلة أدخل في القدرة من المشي على الرجلين أو الأربع، ولم يذكر سبحانه ما يمشي على أكثر كالعناكب وغيرها؛ وذلك لدخولها في قوله تعالى: (يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ) وهذا تعبير إجمالي يدخل فيه آلاف الحيوانات الأخرى من الحشرات وغيرها ممّا يمشي على أكثر من أربع.(4) وليس الخلق محدّداً بهذه المخلوقات, فالحياة لها صور أخرى متعددة بشكل كبير سواء كانت أحياءً بحريّة أم حشرات بأنواعها المتعدّدة، لذا قال: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).(5) ............................. (1) تفسير سورة النور: ص148-149. (2) تفسير سورة النور: ص151-152. (3) تفسير الأمثل: ج11، ص88. (4) الحياة السعيدة في ظل سورة النور: ص231-232. (5) تفسير الأمثل: ج11، ص88.