إِهدار النعم الحسينية
هو ذاك الشريط الأصفر الذي يحدّد مسرح الجريمة؛ للوقوف على أسبابها عن طريق جمع الأدلّة وتحليلها، والوصول إلى الجاني، ومن ثمّ معاقبته تحقيقًا للعدالة، ولإصلاح ما فسد من سريرته. نحاول أن نضع شريطًا أصفر حول مسرح أيّ جريمة، سواء كانت مادّية أم معنوية؛ لحصر أسبابها، محاولين منع تكرارها عن طريق وضع حلول وأفكار ومقترحات لمحاربتها، وعدم تكرارها، والحفاظ على الأمن المجتمعي، والحفاظ على الروح من تلوّث فطرتها بنوازع إجرامية مكتسبة. شهر محرّم الحرام هو شهر الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأنصاره، وعلى الرغم من أنّه شهر الحزن والمصاب، إلّا أنّه زاخر بالمعاني والنفحات الروحانية، وهذا بحدّ ذاته نعمة عظيمة، فالنِعم فيه مادّية كانت أم معنوية، تتخلّلها الأحزان وكسر القلوب، بخاصّة إذا كان كسر القلب لمصاب محمّد وآله الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين). ومثلما أسلفنا، فإنّ النِعم في هذا الشهر الحرام على نوعين: مادّية ومعنوية، والمادّية منها تتمثّل في المجالس الحسينية التي تستذكر سيرة سيّد الشهداء (عليه السلام) ونهضته الخالدة، ومبادئ عاشوراء المتأصّلة في النفوس المؤمنة، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "مَن تذكّر مصابنا فبكى وأبكى، لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلسًا يُحيا فيه أمرنا، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب"(١)، فضلًا عن إطعام الطعام وسقاية زوّار الإمام الحسين (عليه السلام) لمدّة (40) يومًا، بخدمة متفانية على مدار (24) ساعة في هذه الأيام العظيمة، بلا كلل أو ملل لوجه الله تعالى، فعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الله (عزّ وجلّ) يحبّ إطعام الطعام"(٢)، وكذلك خدمة الزائرين بشتى الطرق والوسائل المتاحة. وأمّا النِعم المعنوية، فهي كثيرة جدًّا لا نستطيع إحصاءها في هذه السطور، ويكفي أنّ دمعة واحدة من دموع الجزع لمصاب المعصومين (عليهم السلام) بخاصّة الإمام الحسين (عليه السلام) لها أجر عظيم عند الله تعالى، فعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "مَن ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر"(٣). ومثلما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "النِعم تدوم بالشكر"(٤)، فعلينا المحافظة على تلك النِعم وعدم إهدارها كي لا تزول، وسنتعرّف على بعض مصاديق إهدار النِعم الحسينية: 1- تضييع نعمة المجالس الحسينية وعدم حضورها أو الاستماع إليها على منصّات التواصل، فهذه المجالس نفحة ربّانية بنكهة حسينية مميّزة، لا تتحصّل في غيرها من الشهور، والموعظة فيها تكون مؤثرة بشكل أكبر لتأثير مصاب أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الشهر. 2- إهدار طعام الثواب المقدّم باسم الإمام الحسين (عليه السلام) بشكل قد يؤثم عليه صاحب الموكب بدلًا من أن يؤجر على ذلك، بسبب كمّيات الطعام الكبيرة التي تُرمى في القمامة، فالمسؤولية تقع أولًا على صاحب الموكب، حيث يجب أن يقدّم الطعام بكمّية مناسبة من دون إهدار للنعمة، وكذلك هي مسؤولية الزائر أيضًا، فعليه أن يقدّر حاجته من الطعام ويكتفي بأخذ القدر المحدّد كي يحافظ على النعمة ولا يهدرها، فعن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال: "أحسنوا صحبة النِعم قبل فراقها، فإنّها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها"(٥). 3- إهدار نعمة العفاف التي تعلّمناها من سيّدات العفاف بنات الرسالة، حيث نرى في المجالس الحسينية والمواكب بعض السيّدات بكامل زينتهنَّ وتبرجهنَّ كأنّهنَّ مدعوّات إلى حفل زفاف وليس مجلس عزاء، وأيّ عزاء؟! عزاء ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله). 4- إهدار الأجر العظيم لإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، وإهدار الوعي والعقل عندما ننشر معلومات غير صحيحة عن عاشوراء، وزجّها في الشعائر الحسينية. 5- إهدار نعمة الخشوع والبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)، ونعمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما نستمع إلى الإيقاعات الصاخبة التي لا تختلف عن الموسيقى المحرّمة، ولا نحاول أن نصحّح هذا المسار الخاطئ. 6- إهدار نعمة المحافظة على القِيم عن طريق تقديس بعض الأشخاص على حساب الثوابت الإسلامية الحسينية، ولا يجب أن نستميت في الدفاع عن المخطئ أيًّا كان موقعه. بلحاظ الأخطاء السابقة وعظم تأثيرها في البناء العقائدي السليم للفرد المسلم وللنشء خاصّة، علينا أن نفعّل دورنا بوصفنا أفرادًا ومجتمعًا مسلمًا في تعزيز الشعور بنفحات تلك النِعم، وعدم إهدارها؛ كي لا نُحرم منها، ولكي تستمرّ فلابدّ من استمرار وعينا لها، وشكرنا عليها حتى نحظى بأكبر نعمة على وجه الأرض، وهي ظهور إمامنا المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، فعاشوراء ونِعمها والمحافظة عليها، هو أقرب الطرق لتحقيق الأمل الموعود. ............................................................................................ (1)بحار الأنوار:ج١، ص٢٠٠. (٢)الكافي: ج٤، ص٥١. (٣)وسائل الشيعة: ج١٤، ص٥٠١. (4)مستدرك الوسائل: ج١٢، ص٣٧٠. (5)ميزان الحكمة: ج٤، ص٣٣١٢.