رياض الزهراء العدد 196 ملف عاشوراء
العباس بن علي (عليهما السلام) انصهار محض في الذات الحسينية المطهرة
عن ثابت بن أبي صفيّة قال: نظر عليّ بن الحسين سيّد العابدين (عليهما السلام) إلى عبيد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) فاستعبر، ثم قال: "ما من يوم أشدّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من يوم أحد، قُتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة، قُتِل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب"، ثم قال (عليه السلام): "ولا يوم كيوم الحسين (عليه السلام)، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنّهم من هذه الأمّة، كلّ يتقرب إلى الله (عزّ وجلّ) بدمه، وهو بالله يذكّرهم فلا يتّعظون، حتى قتلوه بغيًا وظلمًا وعدوانًا"، ثم قال (عليه السلام): "رحِمَ الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قُطعت يداه، فأبدله الله (عزّ وجلّ) بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإنّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلةً، يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة"(1). إنّ المعيار الذي يتّبعه المؤمن لاكتساب المعارف والمقامات، ينطلق من دراسة القرآن الكريم وروايات المعصومين (عليهم السلام)، وإذا تأمّلنا في الآيات المباركة، لوجدنا كلمة (سلام) قد تكرّرت أكثر من مرّة، بخاصّة السلام على الأنبياء، كقوله تعالى: (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) و(سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ )و(سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) و(سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِين) (الصافّات:79، 109، 120، 130)، لكن هذا السلام غير مذكورة تفاصيله: مَن يحمله؟ هل هو سلام من الله مباشرة، أم سلام من الملائكة؟ ولنتأمّل زيارة أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، كيف يسلّم عليه صادق آل محمّد (صلوات الله عليهم)، الإمام المعصوم الذي كلامه حقّ وصدق يقف أمام ضريح عمّه العبّاس (عليه السلام) وهو يحمل إليه أمانات، فما هذه الأمانات؟ هي مجموعة (سلام)، لكن سلام ممّن؟ يقول (عليه السلام) في زيارته: "سَلامُ اللهِ وَسَلامُ مَلائِكَتِهِ المُقَرَّبينَ وَأنبِيائِهِ المُرسَلينَ، وَعِبادِهِ الصّالِحينَ وَجَميعِ الشُّهَداءِ وَالصِّدّيقينَ، وَالزَّاكِياتُ الطيِّباتُ فيما تَغتَدي وَتَرُوحُ عَلَيكَ يَا بنَ أميرِ المُؤمِنينَ..."(2)، فكلام المعصوم ليس كلام إنسان عاديّ، ليس كلامًا مجازيًا من أجل البلاغة والمديح والجمالية، إنّما هو كلام مقدّس، وكلّ عبارة فيه يجب التأمّل فيها بعناية ودقّة. فهذا السلام المفصّل المُرسَل من أعلى علّيين، من مقام الألوهية نزولًا إلى مقام النبوّة وعالم الملائكة ومقام عباد الله الصالحين والشهداء والصدّيقين، لابدّ من أن يكون لمَن له مقام عظيم فوق إدراك عقولنا الناقصة المحدودة التي لا نصيب لها من المعرفة والعلم، إلّا ما علّمنا محمّد وآله الطاهرون (صلوات الله عليهم)، وعند مواصلة التدبّر في كلام المعصوم (عليه السلام) نجد أنّه لم يقل (يا عمّي العبّاس)، ولم يقل (يا أبا الفضل)، بل ناداه بأعظم الأسماء والأنساب وأشرفها، فقال: (يا بن أمير المؤمنين)، فأراد الإمام (عليه السلام) بذلك أن ينبّه عقولنا إلى أنّ العبّاس (عليه السلام) ليس ابنًا عاديًا من أبناء السيّدة الجليلة أمّ البنين (عليها السلام)، بل هو شعاعٌ ممّن عنده علم الكتاب، داحي الباب، وليث الصِعاب، وأسد الغاب، ونقطة كلّ كتاب، وقطب دائرة الأقطاب، المنتجب بالوصيّة، وبعل فاطمة الرضيّة، ووالد العترة الزكيّة، إمام سائر البريّة، ونور العارفين، أسد الله وأسد رسول ربّ العالمين عليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهم أجمعين)، ثم نأتي إلى ما قاله أمير المؤمنين (سلام الله عليه) بشأن ولده العبّاس (عليه السلام): "إنّ ابني العبّاس زُقّ العلم زقًّا"(3)، فأيّ علم هو؟ هل هو العلم الحصولي؟ كلا، بل هو فيض من علم عليّ (عليه السلام)، مَن عنده علم الكتاب، باب مدينة علم رسول الله (صلوات الله عليه وآله) الذي أحصى كلّ شيء. ورُوي عن رميلة أنّ عليًّا (عليه السلام) مرّ برجل يخيط وهو يغنّي، فقال له: "يا شاب، لو قرأتَ القرآن لكان خيرًا لكَ"، فقال: إنّي لا أحسنه، ولوددتُ أنّي أحسن منه شيئًا، فقال: "ادنُ منّي"، فدنا فتكلّم في أذنه بشيء خفيّ، فصوّر الله القرآن كلّه في قلبه، يحفظه كلّه(4). انطبع القرآن كلّه في قلب الرجل في موقف واحد، فهل نستطيع أن نتكلّم على علم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) الذي عاش في حجر وليّ الله الأعظم، كيف يكون؟ رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "كان عمّي العبّاس نافذ البصيرة، صلب الإيمان ..."(5)، وعنه أيضًا في زيارته للعبّاس (عليه السلام): "...ولَعَنَ اللهُ أُمّةً استَحَلَّتْ مِنكَ المحَارِم، وانتهكتْ حُرمة الإسلام..."(6). وقد ورد نظير ذلك في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، فانتُهكت حرمة الإسلام بقتل الحسين (عليه السلام)؛ لأنّه (صلوات الله عليه) إمام هذه الأمة وسيّدها وقائدها، وبه يُعرف الله تعالى والإسلام، وحبّه دليل على الإيمان والتوحيد، وولايته ولاية الله تعالى، والمعنى نفسه جاء في زيارة المولى أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) عن الإمام المعصوم صادق آل محمّد (صلوات الله عليهم أجمعين)، فأيّ عظيم هو لتُنتهك حرمة الإسلام بقتله؟! رُوي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: "...وإنّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلةً يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة"(7)، ما المنزلة التي يغبطه عليها جميع الأنبياء والصدّيقين والشهداء التي تظهر يوم القيامة؟ قال بعض الأكابر: إنّ الزهراء (صلوات الله عليها) تأتي يوم القيامة للشفاعة ومعها بعض المصائب التي تحمّلتها في سبيل الله، فيأتي إليها جبرائيل، فيقول لها: يا سيّدة النساء، بمَ تبدئين بالشفاعة؟ بإسقاط جنينكِ المحسن؟ تقول: لا، فيقول: أبقتل ابن عمّكِ عليّ بن أبي طالب؟ تقول: لا، فيقول: أبقتل ولدكِ الحسن؟ تقول: لا، فيقول أبقتل ولدكِ الحسين؟ فتقول لا، فيقول: إذن بمَن تبدئين يا زهراء؟ عند ذلك تخرج الزهراء كفّي أبي الفضل العبّاس وتقول: يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين مَن قطعوا هاتين الكفّين، ما ذنب هاتين الكفّين حتى تُقطعا من الزندين؟"(8). هذه هي المنزلة الرفيعة للعبّاس (عليه السلام) التي يغبطه عليها الأولون والآخرون، فهو شعاع من نور عليّ (عليه السلام)، وباب الحسين (عليه السلام)، وحبيب الزهراء (عليها السلام)، وكفيل زينب (عليها السلام)، فتبدأ به أولًا. لقد أفنى العبّاس (سلام الله عليه) كلّ وجوده في وجود الحسين (عليه السلام)، مثلما أفنى الحسين (صلوات الله عليه) كلّ وجوده في الوجود الإلهي، وقد ترك العبّاس (عليه السلام) كلّ شيء في سبيل الحسين (عليه السلام) مثلما ترك الحسين (عليه السلام) كلّ شيء في سبيل الله سبحانه وتعالى، فالحسين (عليه السلام) ذوبان صِرف في الذات الإلهية المقدّسة، والعبّاس (عليه السلام) انصهار محض في الذات الحسينية المطهّرة. فالحسين (عليه السلام) رمز الفناء المطلق في الجمال الإلهي، والعبّاس (عليه السلام) رمز الفناء المطلق في الجمال الحسيني المشتقّ من الجمال الإلهي؛ لذلك قد خلع الحسين على أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) صفاته ونعوته، فأصبح صورة صادقة عن الحسين (صلوات الله عليه) فهو مرآته، فعندما زحف الأعداء على مخيّم الإمام الحسين (عليه السلام) عشيّة التاسع من المحرّم، خاطب أخاه العبّاس (عليه السلام) قائلًا: "اركب بنفسي أنتَ يا أخي"(9)، فالإمام المعصوم يفدّيه بنفسه، فلابدّ من أن يكون العبّاس (عليه السلام) قد وصل إلى مرحلة من الحبّ والإيثار والتفاني بحيث لم يعد لذاته وجود أمام الذات الحسينية المقدّسة، وهذا ما يفيد أنّ العبّاس كان النسخة الأقرب للوجود الحسيني بعد الأئمة (عليهم السلام). فمَن يريد الكتابة عن ساقي عطاشى كربلاء، فلابدّ من أن يعلم أنّها عمل عبادي مقدّس، أنّها لون من ألوان الطواف حول هذا الوجود النوراني المقدّس الذي أشرق في وادي الطفوف، وأصبح معلمًا من معالم التوحيد، وآية من آيات النبوّة، وبرهانًا من براهين الإمامة، وكعبة يدور في فُلكها عشّاق الجمال وطلّاب الحقيقة والكمال، والذي يريد أن يخوض في هذا المجال، عليه قبل كلّ شيء أن يرتدي زيّ الإحرام، وأن يحرم عن كلّ معنىً أو لفظ لا يليقان بهذا الوجود المطهّر الشريف، وهذا تعبير حقيقي وترجمة صادقة لحالة التوجّه شطر تلك الذات الهاشمية المطوّقة بأنوار الجمال والجلال، بتجلّيات ذاتية تنزّلت عليه بحيث لم تتنزّل على مَن كان قبله، ولن تتنزّل بعد ذلك على مَن بعده، فالمشهور أنّ لليقين ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، والعبّاس (صلوات الله عليه) كان فوق هذه المقامات المتعارف عليها، فعندما قُطعت يمينه قال: واللهِ إنْ قَطعتُمُ يمينــي إنّي أُحامِي أبدًا عن دِيني وعن إمامٍ صَادِقِ اليَقِينِ نَجْلِ النبيِّ الطــاهِر الأمينِ(10) فبلغ أعلى درجات اليقين التي هي فوق مستوى إحاطتنا. ............................... (1)أسرار الشهادة للدربندي: ص324. (2)كامل الزيارات: ص440. (3)المصدر السابق: ص324. (4)مدينة المعاجز: ج2، ص ١٩. (5)أسرار الشهادة: ص324. (6)مفاتيح الجنان: ص435. (7)العوالم: ص٣٤٩. (8)جواهر الإيقان: ص19. (9) الإرشاد: ج ٢، ص ٩٠. (10) بحار الأنوار: ج ٤٥، ص ٤٠.