لتكون موحدا كن إماميا
يُولد الإنسان في أحسن تقويم، إذ كرّمه الله تعالى بقوة العقل، تلك القوة المُدرِكة القادرة على البحث والاستدلال، والوصول إلى نور الهدى، وما إن يبدأ الإنسان بالتفاعل مع نفسه مغادرًا إلى أعماقها ومحاولًا اكتشاف أسرارها والوقوف على غاياتها، إذ إنّه مدرك أنّ لكلّ حركة غاية، وخلافه عبث، وهذا الكائن الباحث عن الكمال الذي كان السبب لانطلاقه في هذه الرحلة، يأبى أن يكون وجوده محض صدفة، وخاليًا من الهدف، فيبدأ بطرح الأسئلة الجوهرية: من أين أتيتُ؟ لماذا أتيتُ؟ إلى أين أذهب؟ وحيث إنّ كلّ ما أقرّه العقل، أقرّه الشرع فإلى هذا المعنى يشير المولى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): "رحمَ الله امرأ عرفَ مِن أين، وفي أين، وإلى أين"(1)، وفي هذا المضمون جانبان يدركهما الإنسان بما وهبه الله تعالى من عقل فطري، فهو من جانب يدرك أنّه تعالى منزّه عن القبيح والعبث في الخَلق، فالعدل الحكيم لا يفعل قبيحًا، والجانب الآخر إدراكه أنّه مخلوق لله سبحانه وتعالى، ولازم ذلك علمه تعالى بكلّ أحواله: روحه، ونفسه، وبدنه، وما يخطر فيهن ويعرض عليهن، حيث يقول سبحانه وتعالى: ...وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (ق:16)، ومقتضى ذلك كان لِزامًا كاشفيًا* على الله تعالى أن يعرّف الإنسان تكليفه إجابةً عن تلك الأسئلة، وتحصيلًا لغرض الخِلقة، ألا وهي العبادة التي فسّرت بالمعرفة، ومآل ذلك تحصيل السعادتين: الدنيوية والأخروية. ولمّا تنزّه الباري تعالى عن مجانسة مخلوقاته، وجلّ عن ملاءمة كيفياته، كان لابدّ من أن يكون بيننا وبين ربّنا سفراء لهم جنبة قدسيّة، وارتباط بالجناب الأعلى، ولهم جنبة بشرية مناسبة للخلق، فهم محلّ الفيوضات الإلهية، وأعلام الدين وقواعد العلم، ولا سبيل إلى معرفة ذلك العلم الهادي إلّا ما عرّفه العليم الحكيم، إذ لا يعلم بتمام خلقه ظاهرهم وباطنهم إلّا هو سبحانه وتعالى، ولمّا كان الإسلام خاتم الشرائع، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا نسخ لشريعة الإسلام، ولا نبيّ بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد تحقّق الغرض من الخلقة، وكلٌّ قد عرف صلاته وتسبيحه، وما يضمن سعادته وكمالات روحه، كلّ ذلك بفيض من النور الأول والبشر الأول الأكمل (صلّى الله عليه وآله)، وحيث إنّ تحصيل الغرض من الخِلقة وتنزيهه تعالى عن العبث والقبيح أزلي أبديّ، كان لزامًا كاشفيًا عليه تعالى أن تستمرّ سلسلة السفارة، والموجودات المقدّسة المبلّغة عنه تعالى، مقرّبةً العبد من الطاعة، ومبعدةً إياه عن المعصية، وهذا من لطف الله بعباده، ومقتضى حكمته، تحصيلًا لغرضه، وإلى هذا الأصل العقلي، أي (قاعدة اللطف) أشار المحقّق الشيخ الطوسي (قدّس) بقوله: (الإمام (صلوات الله عليه) لطف، فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلًا للغرض...، ووجوده لطف، وتصرّفه لطف آخر، وغيبته منّا)(2)، واستمرارًا لذلك اللطف الذي تمثّل بالنور الأول محمّد (صلّى الله عليه وآله) كان لابدّ من استمرار تلك السلسلة النورية، والموجودات الفيّاضة، ومحلّ الوحي، ومعدن الرسالة، وهداة البشر إلى ما فيه الخير والسعادة، وتحقيق العبادة، وهم مَن نصّ عليهم العليم الحكيم، واصطفاهم على العالمين، وعليه، فإن أردنا تنزيهه تعالى عن القبيح والعبث في الخَلق والخلافة، فلابدّ من التسليم لما نطق به العقل وأقرّت به الشريعة، فلم يترك الخالق عباده في حيرة الجهالة، ولا شأنه القبيح والعبث في أفعاله، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. .............................................................. (1) موسوعة العقائد الإسلامية: ج2، ص301. *لِزامًا كاشفيًا: (2)كشف المراد: ص284.