سر العبادة
قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون:1-2). مهما حوّلتُ وجهي شطر القِبلة، وجدتُني أتمثّل الآيات، وأستجدي الخالق جلّ وعلا الفلاحَ الموعودَ من جرّاء الخشوع في الصلاة.. وأسألني: وما الخشوع؟ أليست هي تلك الحالة القلبية النورانية التي تعتري المصلّي إذا ما استحضر كلّ أدوات العبودية الحقّة لله (عزّ وجلّ)؟ ولكن، أنّى يكون للمصلّي أن يبلغ تلك المرحلة من القرب، والدنيا تتراءى له في كلّ درب؟ وما إن يقف للصلاة إلّا وهجمت عليه كلّ نوازع النفس الأمّارة؛ لتصرفه عن ذاك المنهل العذب! فتارةً تتمثّل له في ما يعيشه من ضائقة ماديّة، وتارةً يستذكر همومه المعنوية، وطورًا تبرز له صور أحبابه، فيتلهّى بتذكّرهم عمّا هو فيه من حبّ غير محدود، فإذا هو يعيش صراعًا مع أفكاره وخيالاته وأهوائه، دونه صراع المرء مع أعدى أعدائه! ولا عجب في ذلك، فقد قال النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله): "أعدى عدوّكَ نفسكَ التي بين جنبيكَ"(1). لكن: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس:7-9)، نعم، إنّ النفس لتتزكّى، ويلهمها بارئها سبيل التقوى، فأيّان مفاتيح ذاك السبيل؟ وكيف يهتدي العقل وتتطهّر النفس بمواطن الدليل؟ "لكلّ شيءٍ دليل، ودليل العقل التفكّر"(2)، هكذا قال عابد آل محمّد الإمام الكاظم (عليه السلام).. وهكذا تستنير القلوب برفيع حكمة أئمة الهدى (عليهم الصلاة والسلام) وعظيم برهانهم.. وأيّ شيءٍ أعظم من العقل! به ميّز الله الإنسان وفضّله على سائر مخلوقاته، وبه يحاسب، فيثيب ويعاقب، وبه يرتقي القلب إلى سدرة المنتهى أو يهبط إلى درك الجحيم. وأيّ عبادةٍ أسمى من التفكّر، وهو مفتاح اليقين والإيمان المتين! وكيف لا يكون التفكّر كذلك وهو جوهر العلم الذي قال فيه أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا علم كالتفكّر"(3)، والتفكّر سلاح العلماء الذين امتدحهم ربّ العالمين، مؤكّدًا على وصولهم إلى درجة الخشية، وهي خوف يشوبه تعظيم، وتلك درجة في علاقة العبد بربّه لا ينالها إلّا ذو حظٍّ عظيم، إذ قد قال جلّ جلاله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر:28). وهنا بيت القصيد، وهذا هو التفكّر الذي يميّز عقل المؤمن ويرفعه إلى علّيين، إذ يتكامل به الإنسان وتكتمل إنسانيّته، وتتبلور به العبادة، ويقف العبد بين يدي خالقه وقفة العبودية الحقّة التي لا يشوبها كدر، ولا يصرفه عنها شغل ظاهر أو مستتر، وكيف لا يفعل وصادق آل البيت (عليهم السلام) يذكر: "ساعة تفكّرٍ خير من عبادة سنة"(4)؟! وهل ذاك يعني أنّ التفكّر يغني عن العبادة؟ كلّا، بل إنّه العبادة نفسها، جوهرها ومظهرها، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا عبادة كالتفكّر في صنعة الله عزّ وجلّ"(5). ويبقى التفكّر قائدًا للعقل، وسراجًا للفكر، ودليلًا على الهدى، ومنارًا لعبادة المتّقين: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران:191). .................................................................... (1)ميزان الحكمة: ج3، ص ١٨٤٨. (2)بحار الأنوار: ج١، ص ١٣٦ . (3)ميزان الحكمة: ج3، ص٢٤٦٤ . (4)المصدر نفسه: ج3، ص٢٤٦٥ . (5)المصدر نفسه.