خيمة الشهداء
حمل حقيبته على ظهره وربط على معصمه شريطًا أخضر، وسار بخُطىً مسرعة، فثمّة مَن ينتظره. ـ وصل عادل قائلًا: لقد تأخّرتَ كثيرًا يا عليّ! ـ عليّ: أجل، أنا آسف يا عادل، لقد جهزّت حقيبتي، لكنّي تذكّرت شيئًا لا أستطيع تركه هنا، فكان لابدّ لي من حمله معي أيضًا في هذا الطريق. ـ عادل: شيئًا تحمله معكَ؟ عجيبٌ أنتَ يا عليّ! سارا معًا وهما يتبادلان الحديث والشمس تبدو أنّها تسير معهما، مثلما يظنّ الصغار أنّ الشمس تلاحقهم أينما ذهبوا. ومن أبعد نقطة في العراق ـ البصرة ـ إلى قلب العراق ـ كربلاء ـ بدأت خطوات عادل وعليّ، أحدهما حمل على ظهره لافتة كُتِب عليها: (أنا أسير إلى كربلاء، وأخي يسير مع الشهداء). وقفا برهة عند موكب يقدّم الشاي الساخن مع الكعك والخبز المحمّص على الطريقة الشعبية، ومَن يقدّم الشاي للزائرين هو رجل كبير في السنّ، ترتجف يداه فتنسكب قطرات الشاي الساخن على يده، ويرفض المساعدة لأنّه يرى بأنّ هذه الخدمة هي رأس ماله من الدنيا، يرحّب بالزائرين ويشدّ من عزمهم، ويمضي حانيًا ظهره. شارفت الشمس على الرحيل، وما يزال هناك الكثير من الخطوات، يناقش عادل قضيّة السير نحو الإمام الحسين (عليه السلام)، وكيف تتّجه هذه الملايين نحو كربلاء من دون بوصلة أو حتى مرشد، فكلّ زائر منهم يعرف اتّجاه قبلته، وبين خُطىً وخُطىً هناك موقف وموكب. موكب آخر يشدّ على أيدي السائرين مقبّلًا، ويتوسّل إليهم بأن يرقدوا عنده الليلة، فأوقف أحدهم عادلًا وعليًّا قائلًا: أنتما الليلة ضيفاي، أقسم عليكما بمَن تقصدانه. دموعه وتوسّلاته جعلت عادلًا وعليًّا يقضيان الليل في داره، قضيا الليلة عنده مع مجموعة من رجال الدين، كان بيته بسيطًا، قد غطّى جدرانه بالقماش الأسود وعلّق سقايةً للماء. صورة لشاب صغير في العمر استوقفت عادلًا، فالتفتَ إلى عليّ قائلًا: ـ هذا الشاب صورته تؤلمني كلّما نظرتُ إليها. ـ عليّ: وأنا أيضًا يا عادل، تذكّرني بأخي، غيمة الحزن تمطر هنا. وقف رجل كبير في السنّ كان يرتدي العمامة البيضاء أمام الصورة، وقرأ سورة الفاتحة، كان يعرف قصّة هذا الشاب، وكلّ مَن في الدار كان يشعر أنّ هذا الشاب روحه معهم، فكلّما رفعوا نظرهم وجدوه. لم يعد عادل يحتمل، فهناك شيء يدفعه نحو هذا الشاب، فأسرع نحو صاحب الدار قائلًا: ـ يا عمّ، لو سمحتَ لديّ سؤال... ـ فأجاب بسرعة فائقة: أبشر يا زائر. ـ عادل: منذ دخولي داركم وهذه الصورة تشغل بالي وتؤرّقني، فما قصّة هذا الشاب؟ ـ فأجاب الرجل: إنّه ولدي عبّاس، استُشهد في (جرف الصخر)، كان يخدم الزائرين معي في كلّ سنة، ففي كلّ سنة يفتح الباب وينادي: أهلًا بزوّار الحسين (عليه السلام)، فاستُشهد وترك أمّه العاجزة وثلاث أخوات، وأنا كعادتي في كلّ عام، أقوم بخدمة الزائرين نيابةً عنه. ارتفعت أصوات البكاء، ووقف رجل الدين ونعى، ثم عرّج على كربلاء. التقط عادل بعدسة هاتفه صورةً للشهيد واحتفظ بها، وفي الطريق كان يجلس وقت الاستراحة ويخرج الهاتف وينظر إلى الصورة، حتى افترقا عند مشارف مدينة كربلاء المقدّسة، وهنا شعرا أنّ الشهداء قد وصلوا قبلهما، فاتّصل عليّ بعادل قائلًا: ـ إنّ الشهداء أسرع منّا، فها هم قد وصلوا قبلنا، فهذه صورهم تزيّن الطريق، فعلى كلّ عامود هناك صورة لشهيد. ـ عادل: أجل، فها هي صورة البطل عبّاس على العامود، ذاك الشاب الذي استُشهد، وأنتَ أين وصلتَ يا عليّ؟ ـ عليّ: وأنا وصلتُ إلى عامود أخي محمّد. عادل: إذن بات مقصدنا قريبًا، فأمامنا ساعة ونصل إلى عامود سيّد الشهداء (عليه السلام) ونجلس في خيمة الشهداء.