رياض الزهراء العدد 197 شخصيات ملهمة
آيةٌ وضاءة من بني هاشم
في زمان قبع فيه الإنسان في قعر الظلمات، وتخبّط في مستنقعات الضلالة بعيدًا عن ربّه، لا يقيم وزنًا لعلم ولا لمعرفة، ولا يستنكف من تلويث نفسه، إلى درجة أنّ المرأة كانت تُباع وتُشترى، شأنها شأن البضاعة، وعلى الرغم من هذا الجوّ الحاكم، فقد عاش في تلك الحقبة المظلمة من التاريخ أناس تصدّوا للشرك والضلالة كالجبل الراسخ المنيع، ولم تتلوّث فطرتهم التوحيدية السليمة، ولم يدخل قلوبهم غير الله الواحد الأحد، فبقيت قلوبهم طافحة بحبّه تعالى، وكان من بين هؤلاء الموحّدين فتىً خالف کلّ التقالید والأفکار الضالّة، مدفوعًا بفطرته وإيمانه، غارسًا في قلب ابنته الصغيرة عقيدة التوحيد، حتى نشأت إمرأةً مؤمنةً، طيّبةَ السيرة، لبيبة عاقلة، بصيرة بأمور آخرتها، وهي السيّدة (فاطمة بنت أسد (عليها السلام)، التي كانت من السابقات إلى الإيمان، ويكفي في جلالة قدرها ما قيل في حقّها: (كانت فاطمة بنت أسد من فُضليات الهاشميّات، بزغتْ في عصرها شمسًا في سماء الكمال، تتنقّل في أبراجه، شرف حسب، فكرم محتد، فمكارم أخلاق، فذكاء قلب، فرجاحة حِجا، فطهارة نفس، فجمال ذات، ففضيلة صفات، تلك حِلية هذه السيّدة الجليلة؛ ولذا اختارها سيّد قريش، ولم يستبدل بها سواها مدّة حياته)(١). وإذا بحثنا في سيرة النساء اللائي عاصرنَ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، فسنجد أنّ السيّدة فاطمة بنت أسد بن هاشم الهاشمية، قد قامت برعاية النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حينما كفله عمّه أبو طالب (عليه السلام)، فكانت له من بعد أمّه أمًّا، تقوم بشؤونه وترعى أموره ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا. كانت من أعلم الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فهي زوج عمّه أبي طالب (عليه السلام) التي قضى (صلّى الله عليه وآله) قرابة عقدين من حياته في كنفها، فاعتنت به، وفضّلته علی أولادها في الطعام والملبس وفي كلّ شيء، وليس هذا وحسب، بل ربّت أولادها علی هذا الأمر، فكانوا له حماةً، والمدافعين عنه في صغرهم وفي شبابهم، وهذا نابع من إيمانها بالرسول (صلّى الله عليه وآله) ورسالته قبل بزوغ نورها، فهي من الجماعة الممهّدة للإسلام، حيث أدّت دورًا داعمًا، وبناءً علی هذه الرعاية كان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يعدّها بمنزلة أمّه، ولمّا تُوفّيت كفّنها في قميصه، وصلَّى عليها، وكبّر عليها (70) تكبيرةً، ونزل في قبرها، وجعل يومي في نواحي القبر كأنّه يوسّعه، ويسوّي عليها، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان، فقال له أحدهم: يا رسول الله، رأيتُكَ فعلتَ على هذه المرأة شيئًا لم تفعله على أحد، فقال: "هذه المرأة كانت أمّي بعد أمّي، إنّ أبا طالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة، وكان يجمعنا على طعامه، فكانت هذه المرأة تفضل منه كلّه نصيبًا فأعود فيه، وإنّ جبريل (عليه السلام) أخبرني عن ربِّي (عزّ وجلّ) أنّها من أهل الجنّة، وأخبرني جبريل (عليه السلام) أنّ الله تعالى أمر سبعين ألفًا من الملائكة يصلُّون عليها"(2). لملمت السيّدة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) مسيرة حياتها المفعمة بالتضحية والثبات على المبدأ، وهُرِعت صوب خالقها الودود الذي أكرمها في حياتها كرامةً عظيمةً، بعد عمر أنفقته في امتثال أوامره، فلم يكن عجبًا أن يحزن نبيّ الرحمة عليها، إذ كسرت السيّدة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) الصورة النمطية عن الأمّ التي تفضّل أبناءها على سائر الخلق، فهي ربّت فلذّة كبدها أمير المؤمنين (عليه السلام) على أن يكون السند والفداء لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لتكون بذلك أنموذجًا رائدًا في الإيثار والطاعة، والقدرة علی تحقيق التوازن التربوي داخل البيت وفي محيط الأسرة، وكانت من النساء اللاتي فتح التاريخ لهنَّ الأبواب، فشيّدنَ بأخلاقهنَّ بنيانًا مرصوصًا، وتركنَ أثرًا لا يمكن طمسه؛ ليبقى شاهدًا حيًّا على البذل والرحمة والمودّة، والصورة المثالية التي يجب أن تكون عليها الأمّ في حفظ الأمانة وتربية الأبناء، فالإبحار في سِير الصالحات يجعلنا نتزوّد لتربية النفوس، والتهذيب على التجمّل بالآداب الإنسانية في ميادين الخُلُق وطاعة الله تعالى؛ لأنّ التربية بالاقتداء من خير الأساليب التربوية لصقل الطباع. ............................................... (1)شيخ الأبطح: ص٢٣. (2)أعيان الشيعة: ج1، ص320.