رياض الزهراء العدد 197 الحشد المقدس
على شفير الموت
يكبر المرء فجأةً إذا عاش في ظلّ أجواء الحياة القاسية، ويصلب عوده مع غلظتها وشدّتها، فسنين الشباب ترحل مخلّفةً هِمم الرجال، ونضوج الإرادة الحرّة. بهذا تقاسم أبطال الحشد أماكنهم على الجبال، يشاطرون الطيور الجارحة المخبأ والمأوى. قبض مسلم على الرمّانة التي عَمَدَ إلى إخفائها بكلتا يديه حالما تقدّم الدواعش نحوه، وبقي ينتظر لحظة كشف أمره ليفجّر المكان، وقفوا حوله منتشين، تفوح من أفواههم رائحة الخبث، وترتسم على وجوههم علامات المكر، وفي اللحظة التي أوشك فيها على تفجير رمّانته، تحرّك قطيع الفكر الضالّ بعيدًا عنه بعدما ظنّوا أنّه ميّت لا محالة. تنفّس الصعداء والتفت حوله، فشاهد جثث الشهداء متناثرةً، وبقايا السيارات المحروقة يتصاعد دخانها في الفضاء، ممتزجًا مع غبار تلك المنطقة الجبلية القاحلة. طاف في فكره طفّ كربلاء والأجساد الزاكية المطروحة في عرصاتها، تتصفّحها ريح البيداء، وتيمّمها روح العقيدة الغرّاء، ورائحة الخيام المحروقة تنتشر بأسلوب الكره والدهاء نفسه. لم يكن قد وعى بعدُ مكان الإصابة حين شعر بثقلٍ في قدمه، وسرعان ما هوى مغشيًّا عليه حالما أدرك أنّ قدمه قد انفصلت عن عظم ساقه، لكن كلّ ذلك لم يفقده إرادته الصلبة، وحينما أفاق قرّر الزحف رابطًا رجله اليسرى على اليمنى. وفي خضمّ زحفه تمثّل له شريط الأحداث يعزف لحن الذكريات، وهي تترامى على بوّابة الطفولة، قوسه الذي تبارى به مع أقرانه بمهارة تسديداته في رمي النبال، مصيبًا الأهداف بكلّ إتقان، كان شغله الشاغل عند تلبية نداء المرجعية الانضمام إلى صفّ القنّاصين، وعلى الرغم من رفض المسؤولين ذلك لصغر سنّه، إلّا أنّهم تراجعوا أمام شدّة إصراره، بخاصّة بعدما أثبت أهليته عبر الالتحاق بالكثير من الدورات، ومشاركته في الكثير من العمليات البطولية في (اليوسفية) و(جرف الصخر) وناحية (بلد) في سامرّاء و(حمرين)، ولم ينسَ توجيه قائده: - إنّ الانضمام إلى القنّاصين مهمّة صعبة، تتطلّب كفاءةً وإلمامًا وصبرًا، أتعرف لماذا؟ - لماذا سيّدي؟ - لأنّ على القنّاص الالتزام بالدقّة، والرصد المستمرّ لأوكار العدوّ طوال الوقت. - نعم سيّدي، اطمئن، فسأكون عينكم التي لم ولن تنام. ولم تنم عينه قطُّ عند آخر التحاق له في جبال (مكحول)، حينما بدأ التعرّض لقوّات الحشد من قِبَل مرتزقة داعش في الساعة (7) مساءً، وتناوب الرمي باستخدام مدافع الهاون. بدأت قوافل العزّ ترتفع إلى عنان السماء بشلّال الدماء الأبيّة قبل أن تسقط على وجه الثرى المخضّب على إيقاع لحن الفداء الخالد، شاهد بأمّ عينيه مقاومتهم الممتزجة بهتافاتهم الموالية حينما حمي الوطيس: - لبّيكَ يا حسين، لبّيكِ يا زينب! ظلّ في زحفه ملتئمًا مع طوفان ذكرياته، يخطّ ملحمته بدمه النازف على تراب الوطن الأشمّ، وطيف والديه لم يفارقه عند آخر التحاق له، حيث اتّخذ من جنح الظلام جَمَلًا، ولأنّه كان متفهّمًا لحجم قلقهما وحزنهما، غادرهما من دون وداع شفقةً عليهما ورحمةً بهما. في مشقّة الزحف ومع بصيص الأمل داهمته يد أحدهم بغتةً، تجمّدت أوصاله، وسكن للحظات كانت بالنسبة إليه دهرًا كاملًا، قبل أن يلتفت ليجد صديقه مقطّع الأوصال، قد أنهكته الجراحات، وفي يده دفتر صغير وبعض النقود، هامسًا له بآخر وصاياه. حدّق في السماء بعمق، فارتسمت أمامه مصيبة عليّ الأكبر (عليه السلام) بكلّ تجلّياتها الحزينة، وتحشرج صوته وهو يردّد: - ساعد الله قلبكَ نور عيني يا حسين. استمرّ في زحفه حتّى شعر بجلبة كبيرة تقترب منه في حملة تمشيط أخيرة فَتْكًا بمَن تبقّى. اقتربت الخطوات منه، وأطلقت الغربان نعيقها المشؤوم، وصوّبت الأنظار شزرًا نحوه. كَتَم أنفاسه بالمرّة، وتشهّد الشهادتين، وسلّم أمره لله ربّ العالمين، وهو يردّد لنفسه سرًّا: يا مَن حملتَ اسم سفير الحسين (عليه السلام)، لا تفقد الأمل بالله، ولا تيأس. غيّر الدواعش زاوية بحثهم فجأةً، وحالت صخرة كبيرة بينه وبينهم سترت جسده، فعاد الدم يجري في عروقه، فجمع شتات نفسه من جديد وعاود الزحف المضني. ما يزال متوجّسًا خوف اكتشاف مكانه عند طلوع خيط الفجر الأول، ولاحت في ذاكرته لحظة إصابته، عندما هُرِع إلى نجدة إخوانه الجرحى: - حسين، أنا قادم، ابقَ في مكانكَ. - لا تجازف يا صديقي، فموتكَ محقّق. - لا بأس، فالموت لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة. تذوّق آنذاك طعم الشعور بالنصر والظفر لدى إنقاذ صديقه، وعاد ذلك الشعور السعيد مرّة أخرى في لحظته الآنيّة وقد رفده وأنعش مهجته، وأمدّه بإرادة فولاذية. لم يكن هذا هو المدد الوحيد في هذه الساعات الصعبة، بل إنّ هِبات السماء تنزّلت عليه تترى، فسرعان ما غمرت الفضاء كثافة الضباب، تتدافع لترسم كتلًا من السحاب، حينها أمطرت عيناه دمعًا شجيًّا، إذ استشعر لطف الباري وحنانه. وبينما هو غارق في ذكرياته، تذكّر حينما هوى على الأرض إثر طلقات من رشّاش الـ(BKC) التي أصابت كلًّا من مفصل حوضه وبطنه ورجله في أثناء محاولته إنقاذ جريح آخر، ووصلته هتافات بعيدة، فتوخّى الحيطة والحذر مرّة أخرى. استمرّ في زحفه يرهف سمعه لتلك الأصوات البعيدة وقد أنهكه التعب، ونهشته الأفكار المضطربة، لكنّه لم يَحِد عن وجهته، فإمّا الشهادة، وإمّا النجاة، لوّح لهم على مقربة، فرشقوه بوابل من الطلقات العنيفة التي مرّت فوق رأسه قبل أن يطلق أحدهم صرخاته العالية: ـ توقّفوا، تمهّلوا، إنّه معنا، قد نجا من الدواعش.