حنين ومذكرات مسيرة الأَربعين

فاطمة نعيم الركابيّ/ ذي قار
عدد المشاهدات : 174

وقفت حنين ذات يوم أمام اللوحة وهي تحمل دفترها، وبدأت تقرأ ما كتبته من مذكّراتها عن مسيرة زيارة الأربعين، امتثالًا لطلب معلّمتها، قائلةً: في اليوم (19) من شهر صفر المظفّر وفي إحدى المواكب ليلًا، حيث كنتُ أنا وأمّي وأخواتي نتهيّأ للنوم بعد يوم من السير لنستيقظ باكرًا، فقد كان ينتظرنا يوم طويل آخر، كنتُ أترقّبه بفارغ الصبر، كيف لا؟! فهو آخر يوم سأسير فيه لأصل إلى كربلاء، وأرى القباب ورايتها التي ترفرف عاليًا لألقي على صاحبها وإمامي السلام، وإذا بعجوز لطيفة المبسم تشير إلينا قائلةً: ألا ترغبنَ بسماع قصّة قبل النوم؟ فأشرنا بالإيجاب، وسارعتُ أنا وأخواتي وبعض الفتيات لنجتمع حولها، فقالت: كان هناك عائلة كريمة عزيزة، ذات منزلة وشأن عظيم، نزلت في خِربة من خربات الشام بعد أن أحرقوا خيامهم، وقتلوا رجالهم، وساروا بهم من بلد إلى بلد بالسلاسل مقيّدين، ومن الماء والطعام محرومين، وإذا بفتاة تنادي إحدى السيّدات قائلةً: يا عمّة، إنّ هذه الخربة موحشة، إنّها بلا سقف، نريد العودة إلى ديارنا وبيوتنا، ولا عودة لنا إلى محطّ رحالنا، فقد أحرقوا خيامنا، عمّتي أريد أبي وإخوتي، فأنا خائفة، فبكى الأطفال، وتحسّرت النساء الفاقدات، وأجهشنَ بالبكاء. فقالت السيّدة الجليلة: بُنيّتي، قلتِ إنّ هذه الخربة بلا سقف، أليس كذلك؟ فقالت: نعم يا عمّة. وفي هذه الأثناء هدأت أصوات الأطفال واقتربوا منها منصتين، فقالت السيّدة: إذن انظري إلى السماء، فهي خيمة الله التي تأوينا جميعًا، والتي لا يمكن للأعداء حرقها، وسقف الله الذي يُظلّنا، حيث لا يقوى أحد على هدمه، فأبوكِ وآباء كلّ هؤلاء الأطفال رحلوا شهداءَ إلى ربّ السماء، ونحن هنا لا نزال أحياء على أرضه، فيا بُنيّتي، نحن وكلّ مَن رحل تحت رحمة الله تعالى وفي رعايته، فلا تستوحشي ولا تخافي. فقالت: الحمد لله الحامي والراعي لنا في كلّ آن. فقالت السيّدة: بارك الله بكِ يا بنيّتي الصبورة، وهي تضمّها إلى صدرها، وتمسح على رأسها، وتقرّبها إلى حضنها الدافئ، وتحنّ على الأطفال، فغفا جميعهم حولها بأمان. ونحن أيضًا غفونا على عباءة العجوز الطيّبة حتى مطلع الفجر، ولمّا استيقظنا سألتُها: مَن هذه العائلة؟ قالت: إنّها عائلة إمامنا الحسين (عليه السلام) الذي أنتِ ذاهبة إلى زيارته، والآن تجلسين في خيمة من خيام خدّامه. فشكرتُها وودّعتُها، ثم أكملنا المسير وأنا أستحضر كلّ كلمة قالتها عن عائلة إمامنا الشهيد.