رياض الزهراء العدد 197 رسائل ذاتية
رسالة غريبة
أبي، لقد طرقت ريح الصبا هذا المساء الأبواب، وصفقت الشبابيك بقوة لتذكّرني بوحدتي، وشعور ما خفي قتل الوسن الليلة ليستعمرني السهاد، وهذا الداء تشتدّ حدّته عليّ في كلّ ليلة، فلا دواء يكفي للمحطّمة قلوبهم. رحلتَ وتركتَ لي قارورةً صغيرةً تضمّ بباطنها بضع قطرات من التراب، ومهدًا جديدًا لأخي الرضيع الذي لم تمتلئ عيني بعدُ من النظر إليه، وأنا منذ أربعين ليلة حينما أحطتُ علمًا بأنّ الحياة قد سلبت منّي البهجة وأهدتني البؤس، أصبحتُ جسدًا بلا روح. لا شيء هنا، فقط الفراغ يصرخ بذكرياتكم، وأكثر ما يؤلمني أنّي صغيرة ولم أرتوِ من حنانكَ بعدُ، وبينما أنا على هذه الحال، أحلم أن أكبر بين يديكَ وتغذّيني بالعلم والحكمة، فجأةً وجدتُ نفسي برفقة الليل أنعى فراقكم، والدموع تتساقط ملحًا أجاجًا على جرح قلبي. أبي، أكتب إليكَ الآن لأخبركَ أنّ الأربعين أتى، لكنّها لم تكن محض أربعين يومًا قطّ، بل مرّت كأنّها أربعون دهرًا عجافًا، استنزفت معها كلّ شيء، حتى نسمات الهواء التي تحمل شذاكم؛ ليصبح كلّ شيء بلا حياة، فقط صورتكَ المعلّقة بأهدابي تهدي لعيني بصيص النور لأشاهدكَ فيه. (إنّ كلّ شيء يمكن أن يتغيّر في لحظة، وتنقلب الحياة رأسًا على عقب، وقد يعيش المرء الغربة وهو في موطنه، ويصبح بلا أحد وحيدًا تمامًا)، هذه العبارة كنتُ أسمعكَ تردّدها، لكنّي لم أدرك معناها حتى تلك الليلة التي عزمتم فيها على الظعن والسفر بدوني، تاركين خلفكم طفلة صغيرة غريبة عليلة... وأنا جالسة أرمق السماء بنظرة استجداء، عطفًا على غريبةٍ قد أرّقها الشوق، وآلمها فراق الحبيب المنتظَر، تراءى لي أنّ العليلة تحادث أباها الحسين (عليه السلام) وتشكو ألم الفراق، فشكوتُ ألم فراقي لحنون يرعانا كلّ حين.