أَسرعنا وصولا
عند اجتيازي نقطة البداية المتمثّلة بالعامود رقم (1)، توارت عن ناظريّ معالم مدينتي، وأهلي، وبيتي، وكلّ ما يتعلّق بي من قريب أو من بعيد؛ ليظهر لي عالم ليس كعالمي، بل هو سابق على تكويني وولادتي ونشأتي، خفق قلبي ودمعت عيناي لذاك المنظر الرهيب، لقد تبدّلت الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، فبدت سوداء وحمراء، حتى الهواء كان في هبوبه صوت رثاء، حينها شعرتُ بعطش شديد يداهم قلبي، بعد ما جفّف لساني وحلقي، بحثتُ عن الماء هنا وهناك، لكنّني لم أجده، فصرختُ بأعلى صوتي: العطش، العطش، لكن من دون جدوى، ثم رفعتُ عينيّ إلى صفحة السماء المحمرّة بصورة ملؤها الخوف والتوجّس، ليفاجئني صوت الرعد وضوء البرق، فاستبشرتُ خيرًا، وقلتُ لنفسي: لقد جاء الفرج، ستمطر، وسأرتوي، أرعدت السماء مرّة أخرى، فشعرتُ فيها بزخّات مطر كثيفة تتساقط على وجهي وجسمي، ضممتُ أصابع يديّ إلى بعضها؛ كي أجمع أكبر عدد من القطرات للشرب، وما إن لمست راحتي بضع قطرات حتى ارتعبتُ وارتجفتُ وصحتُ: ربّاه، أهذا عذاب أم غضب؟! ربّاه، هل ارتكبتُ ما غيّر وجه السحب لتهطل دمًا بدلًا من الماء؟! وأنا على هذه الحال، إذ رأيتُ فرسًا من دون فارس يركض نحوي، حاولتُ اللحاق به، لكنّني لم أستطع، فرحتُ أتبع أثره بكلّ ما أُوتيتُ من قوة وسط تلك الصحراء القاحلة، علّه يرشدني إلى ضالّتي المنشودة ولو ببضع رشفات معدودة، لم يدم بحثي طويلًا حتى عاد ذاك الفرس مهرولًا، وبالصهيل معولًا: (الظليمةُ الظليمةُ لأمّة قتلت ابن بنت نبيّها)(1). كان صهيله كالصاعقة التي نزلت على رأسي، فأحرقت قلبي وأنستني عطشي، وحال النساء من خلفه وهنَّ يندبنَ: (واحسيناه، واحسيناه...)، أدركتُ حينها سرّ ذلك التبدّل في الكون، ولأيّ شيء هو محزون، وأنّ هذا اليوم هو يوم عاشوراء، فبكيتُ وصرختُ مع النساء: (واسيّداه، واحسيناه...)، وتوالت الصرخات من حنجرتي، لكنّها تتوقّف عند شفتيْ الجافّتين على صفحات إدراكي، فانتبهتُ على قدح ماء بارد بيد أحد الخدّام وهو ينادي: ماء بارد، اشرب يا زائر...، فشربتُ، ثم بعد ذلك عدتُ لأكمل ما بدأتُ به، ترافقني أصوات الردّات في المواكب الحسينية، ونداء: (تفضّل، تفضّل يا زائر...)، أنواع الأشربة والأطعمة، خدمات مختلفة، كنتُ لا أتوقّف عندها إلّا للضرورة تأسّيًا بسيّدي زين العابدين (عليه السلام) حال أسره عطشانَ جائعًا. كنتُ أنظر إلى الطريق وأنا أمشي كيف أصبح مزدحمًا بالزائرين، وفي هذه الأثناء صادفتُ رجلًا خمسينيًا عليه سيماء الصالحين، لم أرَ أحدًا يرافقه سوى مسبحة الطين، يسبّح الله تارة، وأخرى يذكر الحسين (عليه السلام) بدموع تتلألأ على خدّيه، كان يشبه خالي إلى حدّ كبير، ملامحه، قوامه، هدوؤه، ممّا جعلني أطيل النظر إليه، حتى دنت خطواته من خطواتي، وقطعنا مسافة ليست بالقليلة، لكنّه أخذ يبتعد عنّي شيئًا فشيئًا، ثم غاب عن ناظريّ، ولم أعد أراهُ إلّا بعد لحظات معدودة، حيث كان واقفًا بمحاذاة الشارع المخصّص لسير المركبات، كأنّه يريد أن يوقف إحداها لتنقله إلى بيته أو إلى مكان آخر مثلما اعتاد بعض الناس الرجوع إلى البيت بعد قطع مسافة معيّنة، ثم العودة إليها لقطع مسافة أخرى إلى أن يصلوا إلى كربلاء، وهذا ما يسمّى بـ(المراحل)، تركتُه ومشيتُ، وأهديتُ بضع خطوات لأمّي وأبي بعدما ألقيتُ عليه نظرةً خاطفةً ملؤها التعجّب، سبحان الله! أَتعب هذا الرجل فجأة؟ لقد كان أسرعنا مشيًا، وأكثرنا حماسًا للوصول بأسرع وقت، ربّما كان رجوعه لأمر في غاية الأهمّية، ربّما! وفي تمام الخطوة الرابعة، مرّت بي إحدى السيّارات العائدة من كربلاء بسرعة فائقة، ثم انعطفت إلى الجانب الآخر من الشارع بسرعتها تلك لتلتقي وجهًا لوجه مع ذاك الرجل، رأيتُه سقط أرضًا بمحاذاة الرصيف وكأنّ قلبي سقط من أضلاعي، مثلما رأيتُ الذي دهسه يقوم بحمله مع بعض الناس إلى السيّارة؛ لتنطلق به إلى أقرب مستشفى. كلّ شيء حدث أمام عينيّ بسرعة إلى درجة لم أتمكّن فيها من السؤال عنه للاطمئنان عليه، فالذين حملوه سرعان ما عادوا إلى سيرهم، والذي دهسه ذهب. مسحتُ دموعي بكفّي، وعدت إلى المشي وكلّي أمل بأن يكون على قيد الحياة، وبينما أنا كذلك سمعتُ من خلفي رجلًا عجوزًا يروي الحادث لآخر، وكيف كان قريبًا منه، التفتُ إليه لأسأله: هل الرجل على قيد الحياة؟ أجابني العجوز بابتسامة عريضة: هنيئًا له، على طريق الحسين، وإلى الحسين، وعند الحسين (عليه السلام)، لقد كان أسرعنا وصولًا إلى الشهيد الحبيب.