"ما رأَيت إِلا جميلا"
قال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)، ورُوي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق"(2). إنّ الله تعالى خلق الإنسان وكرّمه وجعله أشرف مخلوق في هذا الوجود، وسخّر له كلّ ما في الكون، ولابدّ له من أن يتأمّل في هذا التشريف والتكريم الإلهي، وبعثة الأنبياء مرتبطة بالنفس الإنسانية وتزكيتها، فمهما بلغ الإنسان من مقام مادّي أو حتى عقلي، فلا يستطيع أن يفلح إذا أُهملت النفس؛ لقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس:9)، فما هذه التزكية، وكيف تكون؟ نعود إلى كلام سيّد المرسلين (صلّى الله عليه وآله) حيث قال: "مَن أحبّ أن ينظر إلى رجل ميّت، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب"(3)، فما العلاقة بين الموت وبين تزكية النفس، وعن أيّ موت يتحدّث رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) في وصفه لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالرجل الميّت؟ إنّ الجهاد الأصغر يؤدّي إلى الشهادة الصغرى وهي موت الجسد، أمّا الجهاد الأكبر أي جهاد النفس، فيؤدّي إلى الشهادة الكبرى، ألا وهي موت النفس، فقد بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بسريّة، فلمّا رجعوا قال: "مرحبًا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر"، قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: "جهاد النفس، ثم قال (صلّى الله عليه وآله): "أفضل الجهاد مَن جاهد نفسه التي بين جنبيه"(4). ونرى السيّدة زينب (سلام الله عليها) على الرغم من أنّها لم تستشهد يوم العاشر من المحرّم في كربلاء الشهادة الظاهرية، إلّا أنّها قد نالت مراتب الشهادة الكبرى، وأصبحت مثلما كان أبوها عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) رجلًا ميّتًا. أمّا مراحل الموت الباطني بحسب علماء الأخلاق فهي: أولًا: الموت الأبيض: وهو تحمّل الجوع والتعب، وهو من شيمة الأنبياء والأوصياء والأولياء، والسيّدة زينب (عليها السلام) كان لها الحظّ الأوفر من هذه الميزة، بخاصّة في كربلاء، وبعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) في طريق الكوفة والشام أيام السبي، حتى بلغ الجوع منها مرحلةً قصوى وأخذ منها كلّ مأخذ، فكانت تصلّي بعض صلواتها المستحبّة من جلوس، فسألها الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن سبب ذلك، فأجابته: "يا بن أخي، إنّ الجوع أخذ منّي قواي، وسلبني القدرة على القيام في الصلاة"(5). ثانيًا: الموت الأخضر: وهو ارتداء الملابس المتواضعة التي تورث حالة من التواضع والانكسار لله تعالى، حيث قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "والله لقد رقّعتُ مدرعتي هذه حتى استحييتُ من راقعها"(6)، وللسيّدة زينب (عليها السلام) من هذا الأمر الحظّ الأوفر، إذ كانت في حداد دائم على سيّد الشهداء (عليه السلام). ثالثًا: الموت الأحمر: وهو الجهاد مع النفس الذي سمّاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالجهاد الأكبر، وقد سُمّي بالأحمر لإراقة دم النفس، وللسيّدة زينب (سلام الله عليها) بعد أمّها الصدّيقة (عليها السلام) السبق في هذا المجال على مَن سواها من النساء. رابعًا: الموت الأسود: وهو على ما قيل: (تحمّل أذى الناس والصبر على لائمتهم صبرًا في سبيل الله تعالى)، ومنهم العقيلة (عليها السلام)، فقد تحمّلت ضرب السياط والشتم والسبي والوقوف في مجلس ابن زياد ويزيد ـ لعنة الله عليهما ـ وصبرت على ذلك، وبعد ملحمة كربلاء أُدخلت السيّدة زينب (عليها السلام) مع سائر السبايا على ابن زياد، فسألها عبيد الله بن زياد: كيف رأيتِ فعلَ الله بأهل بيتكِ؟ فأجابت (عليها السلام) وهي تستحضر كلّ مأساة كربلاء: "ما رأيتُ إلّا جميلًا"(7). إنّ ما رأته السيّدة زينب (عليها السلام) هو قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، وأهل بيته الذين منهم بعض ولدها، وما رأته هو عبد الله الرضيع المذبوح، والرؤوس المرفوعة على الرماح، وكفّي الكفيل المقطّعتين، والصدور المرضوضة، والنساء السبايا، فما خلفية وصفها لذلك كلّه بأنّه ليس إلّا جمالًا؟ انطلاقًا من هذا المبدأ في تقييم صحّة النظرة إلى الأشياء نطلّ على عاشوراء؛ لنفهم عن طريق ذلك سرّ النظرة الزينبية، وحقيقة الشهادة الباطنية، فلقد كانت (سلام الله عليها) تنظر عبر الزمان، وترى ما في الأصلاب كأبيها عليّ (صلوات الله عليه)، وترى شهادة الحسين (عليه السلام) أنّها تحيي القلوب وتحرّك الحبّ والعشق لله ولرسوله، وتنقذ البشر من الهلاك، وتقودهم نحو السعادة الأبدية، فعاشوراء مع كلّ تبعاتها سوف تبقى البوصلة التي تعيد المسار، وتمنع الانحراف، وتوقظ البشرية من سباتها. ............................................. (1)ميزان الحكمة: ج١، ص٨٠٤. (2)المصدر نفسه. (3)رسالة لبّ اللباب في سير وسلوك أولي الألباب: ص71. (4)بحار الأنوار: ج٦٧، ص٦٥. (5)عوالم سيّدة النساء: ج2، ص954. (6)جامع أحاديث الشيعة: ج١٦، ص٦٩٦. (7)بحار الأنوار: ج45، ص١١٦.