قبس من نور المصطفى (صلّى الله عليه وآله)
لماذا أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم (عليه السلام)؟ ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "كان سجودهم لله عبودية، ولآدم إكرامًا وطاعة، كوننا في صلبه"(1)، نعم، إنّ نور محمّد وآل محمّد (صلوات الله عليهم) قد تجلّى لملائكة الرحمن في صلب ذلك المخلوق البشري، فهووا سجّدًا، وقد أحسن الشاعر في تصويره لذلك المشهد المهيب عندما قال: ولو لم يكن في صلبِ آدم نوره لما قيل قُدمًا للملائكة اسجدي(2) في كتاب (الخالدون المئة) للمفكّر والعالم الفلكي الأمريكي (مايكل هارت) الذي آمن بأنّ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) أعظم رجل في العالم، فسجّل في كتابه أنّه الأول والمتقدّم على جميع الرجال المئة الذين أثّروا في البشرية، لما له من تأثير عميق ومتجدّد، وعالمي خارج عن النطاق الإقليمي والمحلّي. يقول (هارت) في حديثه عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله): (محمّد هو الإنسان الوحيد في التأريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي، وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًا وعسكريًا ودينيًا، وبعد (13) قرنًا من وفاته فإنّ أثر محمّد ما يزال قويًا متجدّدًا). ثم يبدأ بالحديث باختصار عن معالم هذا النجاح، إلى أن يقول: (وما كان من الممكن أن تتحقّق كلّ هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته وهدايته، وإيمان الجميع به). إنّ نبيّنا محمّدًا (صلّى الله عليه وآله) غنيّ عن مدح المادحين، فهو حبيب الله وخيرته من خلقه، اصطفته يد العناية الإلهية بأرقى مراتب الاصطفاء، ورعته عينها في رحلته بين أصلاب الطاهرين وأرحام الطاهرات، مثلما ورد في زيارته: "غمسْتَه في بحر الفضيلة والمنزلة الجليلة، والدرجة الرفيعة، والمرتبة الخطيرة، فأودعتَه الأصلاب الطاهرة، ونقلتَه منها إلى الأرحام المطهّرة لطفًا منكَ له، وتحنّنًا منكَ عليه"(3)، إلى أن أشرق الكون بولادته، ثم ازداد إشراقًا بنبوّته ورسالته، اختاره الله ليكون سيّد ولد آدم، ثم اجتباه ليكون خاتم الأنبياء. هذا الإنسان الكامل ملأ الدنيا جمالًا وبهاءً، ووسع الخلق كلّهم بسماته الفذّة، وعبقريته التي لن تتكرّر عبر التأريخ، بنى الإنسان الجاهلي فكريًا وعقائديًا، وأخرجه من الظلمات إلى النور، حوّله من إنسان قاسٍ وشرس يقاتل بلا هدف، أو لأهداف تافهة غير منطقية، إلى إنسان رساليّ يحمل راية الإسلام وينطلق بها في شرق الأرض وغربها. لقد صاغ الله نبيّه صياغة خاصّة، وحباه بالمواهب التي استطاع عن طريقها أن يبلّغ رسالة السماء، منها أخلاقه الرفيعة التي كانت من أهمّ جوانب شخصيته الإعجازية، وقد وصفه الله تعالى بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:4)، وقال (صلّى الله عليه وآله) عن نفسه: "أدّبني ربّي فأحسن تأديبي"(4)، فكانت أخلاقه لا نظير لها، يحتار ذوو الألباب في سموّها وعظمتها، تجسّدت فيه )صلّى الله عليه وآله) مبادئ الخير، وانطوت روحه المقدّسة على مكارم الأخلاق في أبهى تجلّياتها، إضافة إلى ما تميّز به من جاذبية شخصية تأخذ بمجامع القلوب، وتهوي إليها الأفئدة، فقد كان مركزًا للفضائل كلّها من حبّ للناس لا يُوصف، وحنان عليهم منقطع النظير، وعطف تلين له القلوب القاسية، ومداراة تستوعب الآخرين وتحتويهم مهما اتّصفوا به من شراسة وفظاظة. أمّا صبره في طريق الحقّ وتبليغ الرسالة، فقد كان له فيه الحظّ الأوفى، حتى ورد عنه (صلّى الله عليه وآله): "ما أُوذي نبيّ كما أُوذيتُ"(5)، لكنّه صبر حتى ظفر، فدانت له الأرض، وذلّت له رقاب المستكبرين. كان زاهدًا، كريمًا، حليمًا، يعفو عن المسيء، ويجازي السيّئة بالحسنة، ويعرض عن الجاهلين. وقد تجلّى حلمه وعفوه في مواطن كثيرة، ومناسبات شتى، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر موقفه عند فتح مكّة، عندما دخلها مع جيشه الظافر دخول الفاتحين، وسقطت المدينة العصيّة بجبروتها تحت قبضته، وذلّت له رقاب ساداتها الذين أخرجوه منها بالأمس وحيدًا طريدًا، ثم حاربوا دولته الفتيّة أشرس حرب (8) سنوات متواصلة، لم يذق فيها طعم الاستقرار والراحة. أعداء الأمس صاروا اليوم أسرى تحت رحمته، فماذا يتوقّعون منه سوى القصاص وأخذ الثأر؟ لكنّه (صلّى الله عليه وآله) خاطبهم بقوله: "يا معشر قريش، ما ترون أنّي فاعل بكم"؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال (صلّى الله عليه وآله): "اذهبوا، فأنتم الطُلقاء"(6). نعم، لقد أطلقهم جميعًا وعفا عنهم، عاملهم بكلّ عطف وسماحة واحترام لا يستحقّونه، لم يعاقبهم، ولم يعاتبهم أو يذكّرهم بجرائمهم، طوى صفحة الماضي بكلّ ما فيها، ولو أراد أن يقتصّ منهم ولو لموقف واحد وهو الثأر لعمّه حمزة أسد الله وأسد رسوله الذي أوجعوا قلبه بقتله، والتمثيل به أبشع ما تكون المثلة لما كان عليه لوم، لكنّه عفا عنهم في موقف إنساني نبيل قلّ نظيره، فأيّ قائد ظافر يعامل أعداءه بهذا الشكل؟ لا يفعل ذلك سوى قدّيس مرتبط بالسماء، يعكس في سلوكه نهجها القويم. فما أعظمكَ أيّها الحبيب، وما أجمل روحكَ الملكوتية الطاهرة، فحريّ بنا ونحن نزعم أنّنا أمّتكَ أن نتّخذكَ قدوة، نقتفي أثركَ، نلتمس قبسًا من شعاع نوركَ، لعلّنا نصل إلى محلّ الكرامة بين يديكَ. .......................................................... (1)عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2، ص ٢٣٨. (2)ديوان السيّد رضا الهنديّ: ص17. (3)بحار الأنوار: ج٩٧، ص185. (4)ميزان الحكمة: ج١، ص٥٨. (5)مستدرك سفينة البحار: ج١، ص١٠٢. (6)شجرة طوبى: ج2، ص303.