رياض الزهراء العدد 197 فقه العجائز
مفاهيم توقيفية
الانتظار مرّ، مرّت برهة من الزمن وأنا أحدّق النظر في ذاك الأفق الذي ستقبل منه مركبة السفر، المسافة من بغداد إلى البصرة طويلة، لكنّي كنتُ قد أعددتُ لها منذ أسبوع، بخاصّة أنّي سأبقى هناك شهرين، أي مدّة تبليغي في شهري محرّم وصفر، ومع ما أعدّوه لي هناك من غرفة مؤثّثة خاصّة بي، ومكبّر للصوت وكلّ احتياجات الخطيب، إلّا أنّ ملابسي وكتبي الخاصّة بالمناسبة كانت تشكّل لي عبئًا يرهق فكري. كنتُ أنتظر مع مَن ينتظر الحافلة، وتقافز إلى ذهني: ماذا أعددنا لسفرنا الطويل من عُدّة! ذلك السفر الذي لابدّ لكلّ منّا خوضه، ثم تذكّرت قوله تعالى: (...وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى... )(البقرة:197)، ولم تمضِ سويعات حتى أقبلت الحافلة وهُرِع الناس يحجزون مقاعدهم. لم يكن لي ما يكفي من المال ليجعلني أستأجر سيارة خاصّة تقلّني بسرعة، فحشرتُ نفسي مع المسافرين، وجلستُ خلف رجلين مسنّين. سارت بنا الحافلة في طريق متعرّج مليء بالمطبّات، حتى كدتُ أتقيّأ معدتي من شدّة الاهتزازت! وعيناي ترتعان في ملكوت الله، فغلبني النعاس لطول الرحلة. كان رأسي يتدلّى على كتفي ويتراقص بين الفينة والأخرى كلّما مررنا بمطبّ! فتتطاير أسنّة النعاس من عينيّ، وهمهمة الرجلين المسنّين تنساب خُفية إلى سمعي، فرحتُ أسترق السمع إليهما بدون إرادة منّي، كانا يتناقشان في موضوع الوضوء، حيث كنّا على موعد مع صلاة الظهرين، فقال الذي يقبع أمامي مباشرة لصاحبه: من نواقض الوضوء قطع المسافة البعيدة، وهذه المسافة تنقض الوضوء، فأجابه صاحبه: وكذلك ينقضه مسّ النساء، فلو لمستَ امرأة سهوًا، فقد انتقض وضوؤكَ! وراح أحدهما ينقض قول الآخر من دون بيّنة، حتى ذكروا الكثير من الأمور التي هي ليست من نواقض الوضوء، وتركوا نواقضه التي حدّدها الشرع! توجّهت الحافلة إلى مسجد صغير أُنشئ من أجل المسافرين، فنزلنا لأداء الصلاة، وذهب الرجلان المسنّان ليتوضّآ لأنّهما قطعا شوطًا كبيرًا من الطريق! انتهينا من الصلاة وتوجّهنا إلى الحافلة، وبعد أن أخذنا مقاعدنا، قلتُ لهما: كلّ ما ذكرتماه غير صحيح وليس من نواقض الوضوء، فلا قطع المسافة البعيدة ينقض الوضوء ولا مسّ النساء وإن كان محرّمًا، بل ما ينقضه الحدث الأكبر، وهو إتيان النساء، وهذا ما ذكره القرآن الكريم كنايةً بقوله تعالى: (لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ)(المائدة:6)، إضافة إلى النواقض الأخرى، وهي: خروج البول والغائط، وخروج الريح، والنوم الغالب على السمع الذي طرأ عليكما في الطريق، وبسببه انتقض وضوؤكما، والاستحاضة المتوسّطة والقليلة، والحيض والنفاس والجنابة، وكلّ ما يزيل العقل من جنون وإغماء وسُكْر، فابتسم الرجلان وأشاحا بوجههما عنّي، وعيونهما تقول: (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا) (المائدة:104).