قبل أَن تبرد القهوة

زهراء حيدر وحيديّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 178

كنتُ متشوّقًا للغاية، شعرتُ بأنّ رحلتي إلى هذه البلاد لن تكتمل إلّا بعد أن أجلس في ذلك المقهى الجميل وأتأمّل عرض النافورة الراقصة التي تتغنج فيها المياه الملوّنة على أنغام ريح الصبا. يُعدّ هذا العرض من العروض المهمّة والمعروفة جدًا في البلاد، وهي لا تُقام إلّا يوم الاثنين من كلّ أسبوع ولمدّة (30) دقيقة فقط، ولأنّه اليوم الأخير لي في هذه المدينة؛ لذا كان من المستحيل أن أفوّت على نفسي مشاهدة هذا العرض الرائع. جئتُ إلى المقهى مبكّرًا لكي أحجز أقرب طاولة تطلّ على النافورة لأستمتع جيّدًا بالمنظر، وبصراحة كان سعرها أغلى من باقي الطاولات، لكنّي بالتأكيد لم أكن لأبخل على نفسي لمشاهدة عرض ربّما لن أشاهده مرّة أخرى في حياتي. طلبتُ قهوتي المفضّلة، وقبل أن يبدأ العرض بدقائق جاءني النادل بالقهوة، وما إن بدأ العرض وراحت المياه تتراقص حتى سمعتُ صوت ارتطام النادل بسائح صعب المراس، وبدأت صيحاته تتعالى في المكان، فقد انسكب العصير الذي كان يحمله النادل على بدلة الرجل الفخمة، وسبّب ذلك انزعاجًا كبيرًا له وبدأ يصرخ ويلقي اللوم على النادل لقلّة انتباهه وضعف تركيزه، فردّ عليه النادل وطلب منه أن يخفض صوته، إلّا أنّه أبى ذلك ودفعه بيده وهنا كانت الكارثة، إذ حصل شجار لفظيّ عنيف بينه وبين السائح، وتجمّع الناس في محاولة فاشلة لإنهاء النزاع بينهما، لكنّ الأمر لم ينتهِ حتى تدخّل صاحب المقهى وطلب من النادل أن يترك المكان فورًا، وقدّم اعتذاراته للسائح ورافقه إلى دورة المياه لتنظيف ملابسه. انتهت المشكلة بعد أن تدخّل صاحب المقهى، وعاد الجميع إلى طاولاتهم، ورجع الأمر طبيعيًا كأنّه لم يحدث شيء إطلاقًا، عاد الناس إلى تناول الحلويات وشرب العصائر، وأنا أيضًا رفعتُ فنجان قهوتي لأستمتع بمذاقها العربيّ الفريد، لكنّي انصدمتُ بها، فقد أصبحت باردةً جدًا وغير قابلة للاحتساء، فأرجعتُها إلى مكانها، وتمتمتُ مع نفسي منزعجًا من طعمها البارد، لكنّي رفعتُ رأسي مباشرةً لأستمتع بالعرض الذي جئتُ من أجله وتكبّدتُ عناء الرحلة، ففوجئتُ بانتهاء العرض وتوقّف النافورة عن الرقص والحركة، ربّاه، انتهى وقت العرض! فعلى الرغم من أنّي دفعتُ الكثير من المال من أجل هذا العرض ومن أجل هذه الطاولة تحديدًا، إلّا أنّي لم أستمتع لا بالعرض ولا بالقهوة بسبب انشغالي بمتابعة ذاك الشجار الذي حصل بين النادل والسائح، وضيّعتُ على نفسي فرصةً لربّما لن تتكرّر في حياتي مرّة أخرى! خرجتُ من المقهى منزعجًا، وتوجّهت إلى الفندق لأحزم أمتعتي وأستعدّ للمغادرة، كنتُ مستاءً جدًا ممّا حصل، فبسبب شخصين لا أعرفهما وبسبب مشكلة تافهة لا تخصّني، ضيّعتُ على نفسي فرصة استثنائية من عمري. لمتُ نفسي كثيرًا على ذلك، لكنّي فجأة فكّرتُ في حياتي بالمجمل، وقلتُ لنفسي: حسنًا، لقد فوّتُ عرضًا جميلًا وانتهى الأمر، لكن كم فرصة استثنائية في حياتي ضيّعتُها لأسباب تافهة؟ كم موقف جميل لم أعشه مع زوجتي وأطفالي بسبب بعض المنكّدات التي لا تستحقّ أن أصرف عليها دقيقة من عمري! كم جَمعة عائلية لم أحضرها وفاتتني، وكم صِلة رحم قطعتُها بسبب انشغالاتي التي لا تنتهي في هذه الحياة؟ في الحقيقة نحن لا نعطي اللحظات الجميلة حقّها، وننشغل كثيرًا بالمشاكل وضغوطات الحياة، وفجأةً نصحو ونجد بأنّ الكثير من الأشياء الجميلة فاتتنا ولم نستمتع بها. العمر قصير جدًا، والكثير من الظروف والمنغّصات والمشاكل لا تستحقّ أن نصرف عليها ذرّة من وقتنا وصحّتنا؛ لذا يجب أن نتدارك الأمر قبل أن ينتهي العرض وتبرد القهوة!