زهرة قريش اليانعة

هدى نصر المفرجيّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 241

في الركن القصيّ من غياهب الجهل والظلام وربقة الظلم والجور، حيث يقف الرجل متعامدًا مع أشعّة الشمس الحارقة فينسلخ جلده، بينما تصرخ الفتاة الصغيرة وهي محمولة إلى وأد محتّم، والأوثان الحجرية واقفة تنظر كيف يتضرّع الجهلة ويقدّمون القرابين لها، غارقين في جهلهم إلى أبعد الحدود بوثنية كبيرة، فعبدوا من دون الله تعالى أوثانًا لتجلب لهم النفع وتدفع الضرّ عنهم بزعمهم، وكان في كلّ ناحيةٍ من شبه الجزيرة العربية وثن خاصّ بها، وكان بعضهم يعبد الحجر، أو الملائكة، أو الجنّ، أو الكواكب، لاعتقادهم بقدرتها وتأثيرها، حتى صدع الصوت في نفوسهم وتناقلت الأخبار في شِعب بني هاشم أنّه سيولد مَن يُخرج الناس من غياهب الجهل إلى باحة النور والسلام، ويخلّص الشعوب المستضعفة، فارتجفت قلوب الظالمين خشية أن يخسروا سلطانهم الواهم بعد هذه النبوءة. وفي ذاك المجتمع الأرستقراطي المعتزّ بكرم الأصول ومجد الأعراق، وُجدت مَن اجتمع لها أصالة النَسب ورفعة الحَسب، فأبوها (وهب) سيّد بني زهرة، وجدّها عبد مناف بن زهرة الذي يقرن اسمه بابن عمّه عبد مناف بن قصيّ، فيُقال: (المنافان)، تعظيمًا وتكريمًا. وقد ظلّت زهرة قريش اليانعة، وبنت سيّد بني زهرة في خدرها محجوبةً عن العيون، مصونةً عن الابتذال، حتى ما يكاد الرواة يتبيّنون ملامحها، أو يجرؤون على رسم صورتها، بل لا يكاد المؤرّخون يعرفون عنها إلّا أنّها كانت يومئذ أفضل فتاة في قريش نسبًا وموضعًا(1)، وكان عبد الله من بين الذين تقدّموا إلى خطبة (زهرة قريش)، وهو الجدير بأن يحظى بها من دونهم جميعًا، فما كان فيهم مَن يدانيه شرفًا ورفعةً ووسامةً، فهو ابن عبد المطّلب بن هاشم أمير مكّة، وهي المرأة التي تكلّلت بإكليل القداسة، وتوشّحت بوشاح الشرف والمجد والسؤدد، فاختارها الله لحمل نور النبوّة، واصطفاها لأمومة أقدس إنسان عرفه الوجود، الإنسان الذي كان واسطة الفيض بين الأرض والسماء، والذي صدع بالحقّ مثلما أمره ربّه، إذ ألقى عليه قولًا ثقيلًا، فجاء بالشريعة الغرّاء لإنقاذ الإنسان، إنّها أمّ سيّد الخَلق التي أنجبت نور السماء فانشقّ إيوان كسرى، وخمدت نار فارس، وغِيضت بحيرة ساوة، ففي الوقت الذي هشّمت المستضعفين الظروف، وتواطأت ضدّهم الكروب، وتكالبت عليهم الأزمات، وغيّر الظلم ملامحهم، احتاجت أنفاسهم الضعيفة إلى مَن يجبر التهشّم والضعف والانكسار، فهبّت نسائم الخالق الجبّار الذي يجبر انكسار قلوب عباده، فالعيش في كنف الإله يمدّ الإنسان بمراهم الصحّة، وضمادات السعادة، ومسكّنات الأوجاع، ومضادّات الهموم، فهو سبحانه العالم بقلوب عباده وما يصيبها من كسور تترك ندوبها على جباههم، وآثارها في أرواحهم؛ لذلك تولّى جبرها برحمته، فهو القادر على جبرها، يجبر الكسير، ويساعد الضعيف، ويقدّم المتأخّر، تضمّد رحماته جراح النفوس، فضمّد عباده ببذرة زرعها في رحم سيّدة قومها وخيرة النساء في عصرها، ثم أثمرت خير البشر وخاتم الأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فوهبها تعالى الجنّة في الآخرة والشفاعة في الدنيا، وقد رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: "نزل جبرئيل (عليه السلام) على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا محمّد، إنّ ربّكَ يقرئكَ السلام، ويقول: إنّي قد حرّمتُ النار على صلب أنزلكَ، وبطن حملكَ، وحِجر كفلكَ، فالصلب صلب أبيكَ عبد الله بن عبد المطّلب، والبطن الذي حملكَ آمنة بنت وهب، وأمّا حِجر كفلكَ فحجر أبي طالب"(2). ................................................... (1) أمّهات المعصومين (عليهم السلام): سيرة وتاريخ :ج1، ص26. (2) الكافي: ج1، ص٤٤٦.