رياض الزهراء العدد 198 الحشد المقدس
قلائد الإِصابة
للبطولة مواقف تُدرج في خانة الشجعان، وللإصرار والتحدّي حكايا يغترف منها الظمآن، فيطفئ لهيبه المستعر حبًّا بالشهادة، والثلّة الشريفة من غيارى الوطن هبّوا لصون العرض والوطن بعد ما أنصتوا لصوت المرجعية الأخّاذ. سجّل إصرارهم أروع الصور وأبهاها، وقد ظهر ذلك للعيان في أثناء إصابة أبطال الحشد إصابات بليغة، إلّا أنّ إصرارهم على البقاء في ساحة المعركة وعدم مغادرة أرض النِزال، أدهش الجميع وأذهل الألباب، إنّه شوق فاق كلّ الرغبات، وشغف تعدّى كلّ الحدود. انضمّ (ياسر) إلى الحشد المقدّس، وخاض معارك عديدة، وواجه أذناب الشيطان وزمرة الكفر والفساد في جبال (مكحول) من دون أن يطرف له جفن أو يهتزّ له وَتَر، كانت أقصى آماله تطهير الأرض من دنس الكَفرة الفَجرة. وفي مواجهة شرسة وفي أثناء تعرّض شديد للقنص والقاذفات من قِبل عصابات داعش، كان (ياسر) يرصد العدوّ في موضع (عاكس)، ويشاهد مدى الدناءة التي وصل إليها أزلام ذاك التنظيم الفاسد، لكنّ ذلك لم يزده إلّا دافعًا لإبادتهم، وتخليص البلاد من شرورهم وإن قدّم نفسه قربانًا لذلك الهدف الأسمى، ولأمر طارئ خرج (ياسر) من موقعه غير عابئ بقنّاصي داعش الذين تلثّموا بلثام الغدر والحقد الأسود، ومضى نحو واجبه بخطوات ثابتة كأنّه يتحدّاهم، ويردّد بصوت عالٍ قول الإمام السجّاد (عليه السلام): "القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة"(1)، وسرعان ما تمّ استهدافه لكون المنطقة مكشوفة، فسقط البطل بعد ما أُصيب في بطنه، ساقيًا الأرض مسكًا من عطر دمائه الزكية. إنّه وسام القلادة الأول الذي رفعه من محارب إلى جريح حينما توضّأت الأرض بحنّاء فدائه الأغرّ، إلّا أنّ دوره لم ينتهِ ولم يتوقّف؛ لتأتي التتمّة مشرقةً ومشرّفةً كالعادة، وسرعان ما نُقل في إثر هذه الإصابة البالغة إلى الطبابة، ومنها إلى بعض المستشفيات لتلقّي العلاج والتداوي المطلوبَينِ لشفائه. ظلّ الأمل بالتعافي السريع يحيا في وجدانه؛ للعودة إلى صفوف القتال، حتى أزفت الساعة بعد قرابة عام كامل، ليحمل سلاحه مجدّدًا ملتحقًا بإخوانه الأشاوس، يشاطرهم فرحة القتال ودحر بُؤَر الكفر بكلّ بسالة. كان النزال هذه المرّة في معركة (القيروان)، حيث احتدمت المواجهة بشدّة بعد تعرّض القطعات للصواريخ الحرارية والقذائف والسيارات المفخّخة من قِبل العناصر المجرمة، وكان (ياسر) يدافع بشراسة مع إخوته من أهل الغيرة والحميّة. هناك في تلك البقاع المقفرة اعشوشبت الأمانيّ في وجدان كلّ مقاتل، لم تكن أمنيّات متعلّقة بزخرف الدنيا الفانية، ولم تكن أحلامًا تسابق الشهوات الدنيوية المحضة، بل كانت أمنيّات تلوّح على رؤوس المقاتلين بحلم نيل شرف الشهادة، أو تقلّد وسام الإصابة. هكذا تُتوّج الأمنيّات في سلّم الواقع عبر مدّ الشظايا الكثيفة التي صبغت نهار اليوم بالحمرة، وقد تعالت صيحات الغيارى إثر اختراقها أجسادهم المهداة لتراب الوطن الأغرّ، فزُفّت أرواح بعضهم إلى بارئها، وارتدى بعضهم الآخر قلائد الإصابة دفاعًا عن حياض البلد وحفاظًا على مقدّساته، بعدما تناثرت الأشلاء إثر تفجير مدفع (52) الذي كان قريبًا من أبطال الحشد، وجاءت إصابة (ياسر) هذه المرّة في فخذه الأيمن، حيث انغرزت الشظايا محدثة آلامًا شديدة منعته عن الحركة، وفي سلسلة العلاجات ودورة الأدوية الفعّالة تماثل للشفاء، إلّا أنّ الشظيّة استقرّت في فخذه بعد رفض معظم الأطبّاء إجراء عملية لإخراجها، خوفًا من مضاعفات قد تؤدّي إلى توقّف الساق عن الحركة بالكامل. ظلّت الشظيّة في فخذه شاهدًا ودليلًا حتى حلول المنيّة، تحكي متون قصّته المشرّفة للأجيال، وتروي القليل عن نزال الأشاوس وتضحياتهم الجمّة من أجل حياة حرّة كريمة، لا تنغّصها أراجيف الباطل، ولا تدنّسها فلول الكفر، ولا يشوبها ليل مدلهمّ حالك. ................................................ (1)بحار الأنوار: ج٤٥، ص١١٨ .