والتقى النوران
في تلك الليلة كانت النجوم تتلألأ بشكل استثنائي، حتى كاد بريقها يلامس جبهة سيّد البطحاء الذي كان ينتظر بقلق تشوبه البشرى ولادة حفيده، وما إن أشرقت شمس محمّد (صلّى الله عليه وآله) حتى تهاوت الأوثان في فناء بيت الله إيذانًا بزوالها الوشيك على يد الوليد المبارك. لا شكّ في أنّ ولادة النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أهمّ حدث في تاريخ البشرية، فهذا الطفل اليتيم الذي تربّى تارة في أحضان جدّه، وأخرى في أحضان عمّه، هو جوهرة يتيمة لن يجود الزمان بمثلها على كرّ الليالي والأيام. محمّد (صلّى الله عليه وآله) الرجل الاستثنائي الذي وُلد في حقبة كان العالم فيها غارقًا في بحر الجهل والظلمات، وكانت الجاهلية ضاربة بجذورها في مفاصل الحياة كلّها: اجتماعيًا، وخُلقيًا، وعلميًا، وسياسيًا، فقاد بعد (40) عامًا من مولده الشريف عملية التغيير الكبرى مسدَّدًا بالوحي الإلهي، فأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وصاغ الإنسان صياغةً جديدةً تحيّر العقول، وتذهل الألباب، كلّ ذلك الإنجاز الإعجازي تمّ في غضون زمن قياسي لا يتحقّق إلّا على يديه ويدي آله الأطهار، فكان أعظم قائد على مرّ التاريخ البشري. ثم بعد أكثر من قرن وربع من الزمان وفي اليوم ذاته، أي (17) من شهر ربيع الأول وُلد لمحمّد سيّد الأنبياء والمرسلين سبط هو صادق العترة الطاهرة (عليهم السلام)، فليس من باب المصادفة أن تتمّ الولادتان في اليوم نفسه، ولادة المبعوث بالدين الخاتم الذي رفع قواعده، وشيّد أركانه، وربّى المجتمع الإسلامي الرصين، مع سبطه الذي أرسى قواعد الدين الحقّ، وبلور مناهجه، وأوضح معالمه، وعلى يديه المباركتين تمّ تأسيس مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الكبرى التي ضمّت في عصره (20,000) تلميذ من مختلف الملل والنِحل، وألقى عليهم مختلف العلوم والمعارف. لقد واصل الإمام الصادق (عليه السلام) النهضة العلمية الكبرى التي بدأها أبوه الإمام الباقر (عليه السلام) مستغلًّا الظرف السياسي المؤاتي، وانشغال الأمويين والعباسيين بالصراع فيما بينهم على السلطة، فكانت فرصة ذهبية للإمام (عليه السلام) أن يفتح الباب على مصراعيه، ويمدّ بساط العلم لطالبيه، فلا عجب في أن نجد مئات الروايات المأثورة عنه (عليه السلام)، وصارت عبارة: قال الإمام الصادق أو قال أبو عبد الله، طاغيةً في تراث أهل البيت (عليهم السلام) حتى غدت شعار علم الحديث. لقد واجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الجاهلية الأولى متمثّلة بالكفر والشرك، والانحطاط الأخلاقي، وجاهد جبهة الكفّار والمنافقين حتى نشر نور التوحيد، ودان الناس بدين الله، كذلك واجه سبطه الإمام الصادق (عليه السلام) الجاهلية الثانية التي عادت بشكل انحراف عقائدي، ورواج أفكار ومعتقدات بعيدة عن الفكر الإسلامي النقيّ، وفلسفات وافدة معقّدة وغريبة، فكان جهاده العظيم ضدّ هذه الجبهة حفاظًا على دين جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله). ومن مهامّه الباهرة (عليه السلام) تربيته لكوكبة من الطلاب الذين كتبوا وألّفوا في جميع الاختصاصات العلمية. نوران أشرقا في اليوم نفسه من المشكاة ذاتها، نور خاتم النبيّين، ونور شيخ الأئمة، فامتلأت الدنيا بهما إشراقًا وبهاءً وهدايةً، فكان يوم (17) من شهر ربيع الأول بحقّ عيدًا من أعياد الدهر، ويومًا يطأطئ له التأريخ رأسه حبًّا وإجلالًا.