مفزع قريش
بعد أوّل نغمة للجوع، لملم أوجاع اليتامى والمساكين والجياع خلف أبواب الحزن الكبيرة، حتى الطيور في رؤوس الجبال، إنّه مُطعِم الطير في السماء كرغيف خبز مغمّس بطعم العافية، لقد ملأ الوادي من كفّيه، وهم كالحون في إشراقة وجهه كضياء النجوم في غسق الدجى، والقبائل من حوله تقتفي آثار مجده، لم تمتلئ الثغور من حكاياته بعدُ، ففي كلّ آنٍ تستدرك حديثها، وهو في ركن من أركان البيت المعمور مشغول بمناجاة الربّ، يلتمس رحمته حين تمسك السماء، ومكّة من حوله عطشى، فالخوف قد صدّع رأس أمانها، فحطّمت أسوار الصمت وهي تتشبّث بأنامله التي تطرق بيت الإله. ومن خلفه الجاهلية تقدّم القرابين، وتدهن وجه الأوثان بدمائها فأنّها شاخصة برأس صغير، فما تزال تقدّسها كأنّها الربّ، لكن مَن يقدّس بيت الله؟ فأنّه ضحية لأبرهة الأشرم وجيشه، وشيبة الحمد يناجي: يا ربِّ لا أرجو لهم سواكا يا ربّ فامنَع منهمُ حِماكا إنّ عدوَّ البيـتَ مَن عاداكا امنعهمُ أن يخربـوا فِناكا(1) أبرهة يزعم القوّة، ومن فوقه الأبابيل تنتظر الأمر الإلهي برمي الحجارة، لن ينجوَ ومَن معه من غضب السماء، هل سيحدّث سكّان جهنّم عن فعلته ورحلته إلى الجحيم؟ نجا البيت العتيق وأوشكت الحكاية على النهاية، ومن أمامه عبد المطّلب يغسلُ شيبته بعينيه الممطرتين ويناجي ربّه قائلًا: شكرًا لكَ يا ربّ، وقريش لم تفعل شيئًا على الإطلاق غير أنّها تلوذُ به في الشدائد، وتسعف نفسَها من الهلاك لتبقى، كأنّه وجه الحياة الأخرى للوادي، ملأه الحنين وهو يضمّ نورَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كي لا تصل إليه أيدي الظلام المشرّعة، وهو كعادته في جوفه معنىً، وفي صدره أسرار، وفي ثغره صمت يرتقب فرجَ بوحه ليهشّم عظم الفوضى وهو يبصر من بعيد يد محمّد (صلّى الله عليه وآله) كيف تقطع رأس (اللّات) و(العُزّى) بسيف النبوّة معلنًا نصرَ أيّامه القادمة بسقوط (الطلقاء) الذين كانوا يرتدون أقنعة المحارم ونأوا عن التوحيد، يهزّون أعطاف الكرامة بين القبائل، هكذا هم، وهكذا أنتَ سيّد الوادي، وأمّ القرى بين يديكَ مبسوطة على مصراعيها، تسقي واديها غير ذي زرع بماء زمزم بنقاءٍ عندما ذبلت فيها الشفاه، هي ذا، ما تزال تقرأ عليكَ السلام، وتطفئ نيران الحسرة بثوب الكعبة الذي يصرخ بنعيه المطرّز: يا سيّد العربِ ومفزَع قريش. ...................................... (1) بحار الأنوار: ج15، ص 145.