رياض الزهراء العدد 198 فقه العجائز
زيارة الأَموات
اصطفّت الزنابق الفتيّة في حلقة دائرية مهيبة وهي تنشر عطر التزامها بإرث قدوتهم الزهراء (عليها السلام)، فصارت حواشي عباءتها البيضاء تغازل ذرّات التراب غير المرئية على أرضية القاعة المعدّة لحفل التخرّج، فراحت تلك الذرّات تعانق العباءات لتستنشق منها عبق الولاية، وتستمدّ منها بركات الرعاية. كنتُ أمتّع ناظريّ بجمال أرواح تلك الفتيات وقدسية زيّهنَّ الأبيض، وأتفحّصهنَّ واحدة تلو الأخرى، ويتعاظم التفاخر بهنَّ في داخلي، فقد أكملنَ الدورة الصيفية بحفظ قصار السُور، وتعلّم أصول الدين وفروعه وأحكامه. لم أُرزق ببنت، لكنّي أشعر بأنّ هذا العدد الكبير من الزنابق هنَّ بناتي، وحين تخامرني هذه الفكرة تغزو عيني الدموع فرحًا. (30) يومًا أمضيناها معًا في الواقع والمواقع، لا نفترق، أسقيهنَّ من النمير العذب، فينهلنَ منه شاكرات، طالبات للمزيد، وقد حان موعد العودة إلى الديار بعد ما كمل حفل تخرجهنَّ، فأودعتُهنَّ قلب الحافلة، فلمّا سارت بنا قليلًا، قلتُ لهنَّ: لنستثمر الطريق في أمور تنفعنا، فاطرحنَ ما لديكنَّ من أسئلة. انهالت عليّ الأسئلة، لكن كان الأغرب من بينها حينما سألتني إحداهنَّ عن لسان جدّتها قائلةً: أستاذة، جدّتي تقول: لا يجوز زيارة الميّت قبل أربعينه، تروّيتُ في الجواب، فلطالما تكرّر عليّ سؤال كهذا، ولا أدري ما العلّة في المنع من زيارة الميّت قبل إتمام (40) يومًا من وفاته؟! ثم استقبلتُها بوجهي كلّه وقلتُ: لا يوجد منشأ لهذا الكلام، ولم يرد في الشريعة نهي عنه، فيجوز زيارة الميّت من أول لحظة دفنه حتى قيام الساعة، فالميّت يستأنس بمَن يزوره، فلِمَ نؤخّر زيارته حتى أربعينه؟! ودليلنا الروايات الشريفة، فعن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قلتُ له: المؤمن يعلم بمَن يزور قبره؟ قال: "نعم، ولا يزال مستأنسًا به ما دام عند قبره، فإذا قام وانصرف من قبره دخله من انصرافه عن قبره وحشة"(١)، وكذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "زوروا موتاكم فإنّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه وعند قبر أمّه بما يدعو لهما"(٢)، فلا حرمة شرعية ولا مخالفة عرفية فيها، بل فيها استيناس للميّت وثواب للزائر. وعليكنَّ يا زنابقي الجميلة أن تتفقّهنَ في الدين لتردّنَّ على كلّ بدعة أو خرافة، فأنتنَّ أملنا لغدٍ أفضل. ................................................. (1) وسائل الشيعة: ج2، ص٨٧٨. (2) المصدر نفسه: ج٣، ص٢٢٣