السيدة سليل (عليها السلام)
كثيرةٌ هي المحطّات التاريخية التي تقف عندها العقول والأفهام؛ لتستدرك ما قدّمه الباري تعالى للإنسان، وأقلّ منها المنعطفات الحاسمة التي كانت للبشر فيصلًا بين الخير والشرّ، وأقلّ بكثير تلك النجوم المضيئة التي شعشعت في ليل الإنسانية؛ لتهدي كلّ باحث عن الحقّ، وترشده إلى سواء السبيل. ومع أنّ كلّ أمّهات المعصومين (عليهم السلام) كنّ من خيرة النساء، وكان لكلّ منهنَّ دورها الذي لا يُنكر في التبليغ بالدين والهداية إلى الصراط المستقيم، غير أنّ لبعضهنَّ دون الأخريات خصوصية تسمهنَّ بما كنَّ به جديرات، ومن تلك النساء الخالدات امرأة حملت على عاتقها همّ الإمامة لسنوات، وكانت الواسطة بين الشيعة وإمامهم؛ لتعذّر لقائهم به بسبب الخطر المحدق والحصار المفروض من قِبل حكّام بني العبّاس، الذين أرادوا أن يخنقوا الصوت والأنفاس، والعقل والإحساس، ليرتع سلاطينهم في ملكٍ ليس لهم فيه حقٌّ من الأساس. هي السيّدة (سُلَيل)، وفي بعض المصادر (حديث)، سيّدة لم يخفض من شأنها أنّها استُرِقّت في الحرب، وأُتي بها من بلدها في الغرب؛ لتدخل بيت الإمامة، فيشتريها وكيل الإمام الهادي (عليه السلام)، وذلك بصفتها المخصوصة، وهي قصّة معروفة تكرّرت مع غيرها من أمّهات الأئمة اللواتي تحدّرنَ من أصول غير عربية، لكنّ الخالق البارئ الذي يجمع بين القلوب وإن تباعدت المسافات، ويهيّئ الأسباب للقاء الطيّبين بالطيبات، أتى بهنَّ على جناح القيد والأسر لتتحرّر نفوسهنَّ وأرواحهنَّ في فناء خير الخَلق، وليكنَّ المصطفيات لولادة خير أهل الأرض. روحي فداكِ يا سُليل الطاهرة، إذ دخلتِ بيت الإمامة محفوفةً بالطهر والبركات، لتتلفّعي برداء القدّيسات، وتأخذي موقعكِ بين الصدّيقات، وتلدي للأنام ذاك الإمام الذي تهلّلت لولادته الكائنات، وسبّحت الطير في الفلوات، واحتفلت الملائكة في السموات. لقد بشّركِ الإمام الهادي (عليه السلام) به مذ رآكِ، فخاطبكِ بقوله: "لا تلبثينَ حتى يعطيكِ الله عزّ وجلّ حجّته على خلقه، الذي يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا"(1). هو العسكريّ، أبو مهديّ هذه الأمة، احتضن هموم الأئمة، وقام بدوره الربّاني من وراء ستار، حيث ضيّق عليه العبّاسيون الحصار، فغدا لا يلتقي بشيعته إلّا لمامًا، وكان ذلك للشيعة من حيث لا يدرون تمهيدًا لغَيبة إمامهم في قابل الأيام. ولسليل (عليها السلام) شأن لم يكن لسواها، كلّا، ليست شهادة إمامنا الهادي (عليه السلام) بحقّها في قوله: "سليل، سلّت من كلّ آفةٍ وعاهةٍ، ومن كلّ رجسٍ ونجاسة"(2)، مع أنّ تلك الشهادة بيّنت فضلها وكرّست طهارتها الماديّة والمعنوية، وليس شهودها ولادة الإمام الثاني عشر، فقد شهدت ذلك أيضًا أمّه نرجس، وعمّته حكيمة بنت الإمام الجواد (عليهم أزكى الصلوات والسلام)، وكان لتلك النساء فضيلة رؤية الطلعة الرشيدة، والغرّة الحميدة، فور الولادة العتيدة، ولعمري فإنّهنَّ بتلك الرؤية جديرات، فقد كان لكلّ منهنَّ دورها المشرّف في صياغة تاريخ الأمة، على أنّ الدور الأبرز كان للسيّدة سليل (عليها السلام)، وقد تمثّل في لقبها الأشهر بـ(الجدّة)، بلى، فالجدّة (سلام الله عليها) لم تكن فقط جدّة خاتم الأوصياء (عليه السلام)، بل كانت ملاذ الشيعة في غيبته الصغرى. و(الجدّة)، هي مَن شهدت بقلبها المفجوع الدامع شهادة زوجها الإمام المعصوم، ثم ولدها الإمام المعصوم وهو في ريعان شبابه، لم يجاوز عمره (28) عامًا، ثم كانت بقلبها الملهوف الخاشع وكيلةً في التبليغ عن حفيدها الإمام المعصوم، إذ جعلها (سلام الله عليه) واسطةً بينه وبين شيعته، ولمّا تساءل بعضهم: أقتدي بمَن وصيّته إلى امرأة؟! أتاهم الجواب على لسان السيّدة حكيمة (عليها السلام): "اقتداءً بالحسين بن عليّ (عليه السلام)، والحسين بن عليّ (عليه السلام) أوصى إلى أخته زينب بنت عليّ في الظاهر وكان ما يخرج عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) من علم يُنسب إلى زينب، سترًا على عليّ بن الحسين (عليه السلام)"(3). لهفي على من شُبّهت بزينب الكبرى تالية الزهراء (عليهما السلام)، ولم تُشَبَّه بها غيرها من النساء، وقامت بدورها في حفظ الإمام الحجّة القائم (عجّل الله فرجه الشريف)، فسلام عليها يوم وُلِدت، ويوم رحلت، ويوم تُبعث مقامًا محمودًا. ..................................... (1) منتهى الآمال: ج2، ص520. (2) المصدر نفسه. (3) بحار الأنوار: ج46، ص20.