رياض الزهراء العدد 199 شخصيات ملهمة
السيدة فضة في بيت الوحي
من منهل عذب يرتشف بعض المؤمنين وهج حياتهم، فيزيدهم الله (عزّ وجلّ) معينًا؛ ليميّزهم بين أقرانهم، فيكونوا قدوة تسير على أرض جرداء ترتجي غيثًا يسقي زرعها وأقدامهم، هذا السيل الذي يسدّ رمق الأرض حتى وإن كانوا من الموالي، ففي نهج الإسلام يكون الموالي بعيدين عن خارطة الرقّ التقليدية، مختلطين بالمجتمع، ومبدعين في شتّى المجالات. ومن زقاق إمام العارفين برزت شخصيات احتلّت مكانة واسعة في المجتمع الإسلامي، على الرغـم من أنّها تنتمي إلى طبقة الموالي، منها السيّدة (فضّة) التي ارتبط اسمها باسم السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) منذ أن دخلت بيتها؛ لتجعل الناس ينظرون إلى قضية في غاية الأهمّية، ألا وهي قضية التعامل الإنساني القائم على الرحمة والتواضع الذي كان يعامل به أهل بيت النبوّة الناس، فـ(فضّة) جاءت إلى بيت الزهراء (عليها السلام) لتقدّم لها المعونة، فتحوّلت إلى أختٍ للزهراء (عليها السلام)، تشاطرها همومها، وشاطرت الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) أهمّ أحداث حياتهما، فكسبت منهم صفات فاضلة وعلمًا واسعًا منحها في ما بعـد مكانة مرموقة في المجتمع الإسلامي، وفي الكتاب السماوي الذي أُنزل ليثبت الحقّ ويطمئن النفوس، جاء قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (الإنسان:5-8)، حيث نزلت هذه الآية لتفسّر ما حلّ بدار أمير المؤمنين (عليه السلام) ولتكون آية تهدي الأقوام من بعده بأنّ مَن يسير على نهجهم له في الآخرة كأس مزاجها من الكافور، فكانوا خير مَن وفى بنذره، ومَن أطعم الطعام لوجه الله تعالى كلًّا من المسكين واليتيم والأسير، وشاطرتهم هذا الفضل خادمتهم (فضّة) لوجه الله تعالى لتنال منزلتهم عنده، فعُدّت من أهل دار الوصيّ (عليه السلام) ترتوي من معين خُصّص لهم في الدنيا والآخرة. فهي أميرة أرسلها القدر لتتوّج في بيت خير الأنام، رضيت أن تكون جارية حتى تتشرف بخدمة مولاتنا الزهراء (عليها السلام)، تعلّمت علوم كثيرة حتى حفظت أحاديثها وأقوالها، نذرت حياتها لخدمتهم وامتازت بالحلم والأخلاق، وقد رُوي عن الإمام الصادق عن آبائه، عن عليّ (عليهم السلام) أنّه قال: "إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخدم فاطمة ابنته جارية اسمها فضّة النوبية، وكانت تشاطرها الخدمة، فعلّمها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دعاءً تدعو به، فقالت لها فاطمة: أتعجنين أو تخبزين؟ فقالت: بل أعجن يا سيّدتي وأحتطب، فذهبت واحتطبت وبيدها حزمة، وأرادت حملها فعجزت، فدعت بالدعاء الذي علّمها وهو: (يا واحد ليس كمثله أحد، تميت كلّ أحد، وتفني كلّ أحد، وأنتَ على عرشكَ واحد لا تأخذه سنة ولانوم)، فجاء أعرابيّ كأنّه من (أزد شنوءة)، فحمل الحزمة إلى باب فاطمة"(1)، مثلما أنّ مساعدتها للزهراء (عليها السلام) لم تكن مقتصرة على العمل في المنزل، بل كانت تلميذة ملازمة لمعلِّمتِها، ونالت من الشرف في ارتباطها بسيّدة النساء (عليها السلام) في كلّ الأوقات والمصائب، حتى أنّ الزهراء (عليها السلام) ذكرتها عند سقوطها، إذ صاحت يا فضّة أسنديني، وهذا دليل على مكانتها عند الزهراء (عليها السلام)، فهي قد اقتبست من ضياء النبوّة، وارتشفت من معين الإمامة كلّ معاني الطاعة لله (عزّ وجلّ)، حتى بقت تنهل من نمير علمهم، وتربّت في مدرستهم، وطبعت كلّ حياتها ووجودها بطباعهم فكرًا وعلمًا، وفضيلةً وإخلاصًا، حتى قال فيها أمير المؤمنين (عليه السلام): "اللهمّ بارك لنا في فضّتنا"(2)، فبارك فيها (عزّ وجلّ)، ولازمت أهل بيت النبوّة حتى آخر رمق من حياتها، مدافعةً عنهم، شاهرةً كلمة الحقّ بجانبهم، ملازمةً لهم في أحزانهم وأفراحهم، فمدّ الله سبحانه وتعالى في عمرها؛ لكي تستمرّ في خدمة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام)، فبعـد أن تشرّفت بخدمة الزهراء (عليها السلام) ردحًـا مـن الزمن، استمرّت في خدمة السبطين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وروى لنا التاريخ حضورها في واقعة الطفّ، وسيرها مسيرة الحسين (عليه السلام) بكلّ فخر من دون أن يرتجف لها جفن أو يغلبها خوف، فهي تبحث عن حبّ الله في خير مَنْ مثّل خلافة الله ف أرضه، وأصبحت في ما بعد المصدر العذب الذي يستقي منه كلّ مَن يريد أن يعرف ويستزيد من أهل البيت (عليهم السلام) عامّة، ومن الزهراء (عليها السلام)بخاصّة؛ لتكون قدوة ونهجًا يُتلا على قادم العصور. إنّ مَن يسير على نهج آل بيت رسول الله (صلوات الله عليهم)، فسيرزقه الله من جنانه أفضلها، ومن دنياه خيرها، ومن رضاه ما يسرّ الناظرين، فيخلّده أبد الدهر، فلا يُردّ دعاء يُطرق بواسطة بابهم ليكونوا عند الله راضين مرضيّين. ........................................................ (1)الإصابة: ج۸ ، ص۲۸۲. (2)فضّة خادمة الزهراء (عليها السلام): ص14.