مسؤولية الكون بيد أَعظم قائدة
استند مفهوم القيادة في المنظومة الدينية على الهوية الذَكَرية منذ بداية الخليقة، بدءًا من دور آدم الرسالي بعد الغفران السماوي، ثم سلسلة أنبياء الله المؤلّفة في قيادة عباده، فما تزال الرسالة تتلقّفها الأيدي الأمينة التي تتكبّد عناء محاربة الجهل والضلال إلى حدّ إزالتهما من نفوس البشر، حتى تسلّم الرسالة الإلهية خاتم الرسل وسيّدهم؛ ليكون شخصه الشريف نقطة التحوّل لصوت السماء في نفوس أهل الأرض. فمنذ بُعث النبيّ محمّد (صلى الله عليه واله) بالنبوّة الخاتمة، كان الدور الأنثوي حاضرًا في قسمات حياته الشريفة بقوّة ووضوح، الدور الذي لم يُشهد في سيرة الأنبياء (عليهم السلام) إلّا في مواطن معدودة كانت محطّ إسقاط للحدث وليس الحدث ذاته، فأدوات الأنبياء (عليهم السلام) في هداية الناس كان لابدّ لها من أن تتناسب مع فكر الأمم آنذاك ووعيهم؛ لتنتج مخرجات تتناسب طرديًّا مع واقعهم وانتمائهم إلى الدين، وهذا ما أحدث الصدمة القَبَلية الأقوى في أمّة نبيّ الرحمة (صلّى الله عليه وآله) التي أرغمتهم على محو ذاكرة الوأد في قبائلهم، ممّا أسفر عن خَلق مكانة المرأة البارزة حتى يومنا هذا. فلقد أحاط الله سبحانه نبيّه بنساء كاملات أدّينَ أدوارهنَّ الساندة لنبيّه (صلّى الله عليه وآله) ودعوته الحقّة، منهنَّ السيّدة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) التي قال عنها (صلّى الله عليه وآله): "... إنّها كانت من أحسن خَلق الله صنيعًا إليّ بعد أبي طالب"(1)، ثم قام الدين العظيم على مال أمّ المؤمنين السيّدة خديجة الكبرى (عليها السلام) وبذلها وتضحياتها، ومواساتها لنبيّ الله (صلّى الله عليه وآله)، حتى وصل الدور إلى ابنتها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ذات الولاية التكوينية والتشريعية. لقد غيّبت الشبهات الواسعة التي دُسّت من قِبل المعادين لآل البيت (عليهم السلام) حقيقة الدور الريادي للسيّدة الزهراء (عليها السلام)، فهل يُعقل أن تكون ابنة الوحي وبضعة رسول السماء خالية الوفاض؟! أو أن يقتصر دورها على الظهور في بضع مواقف فقط؟! وقد قال إمامنا الحسن العسكريّ (عليه السلام): "نحن حُجج الله على الخلائق، وأمّنا فاطمة حجّة الله علينا"(2)، فهي الحجّة على حجج الله تعالى، وكانت مقصد الأمّة في أمور الدين والدنيا، وممّا جاء في حديث الإمام العسكريّ (عليه السلام) أنّه قال: "قالت فاطمة عليها السلام - وقد اختصم إليها امرأتان، فتنازعتا في شيء من أمر الدين، إحداهما معاندة، والأخرى مؤمنة ففتحت على المؤمنة حجّتها فاستظهرت على المعاندة، ففرحت فرحًا شديدًا - فقالت فاطمة عليها السلام: إنّ فرح الملائكة باستظهاركِ عليها أشدّ من فرحكِ، وإنّ حزن الشيطان ومردته بحزنها أشدّ من حزنها..."(3). ولنا في نصرة السيّدة الزهراء (عليها السلام) لإمام زمانها أسوة حسنة، فقد نصرت زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) التي تجاهلت عند إيذائه جراحاتها وانتهاك حرمتها، وخرجت تنادي بكلمة الحقّ في زمن الباطل، خرجت تنادي: (عليٌّ وليّ الله) بكلّ ما أوتيت من قوة، حتى رحلت مظلومة، مجهول قدرها، شهيدة في سبيل الله ونصرة وليّه الأكبر. .................................................................................. (1) بحار الأنوار: ج٣٥، ص١٨٠. (2) الأسرار الفاطميّة: ص١٧. (3) المصدر السابق: ج2، ص8.