يُدعى الحُسين

آلاء عادل/ البصرة
عدد المشاهدات : 126

كانت سوزان غارقة في نفسها وبمشاعر لا تزيدها سوى همّاً ونَكداً، وما زاد بلل الغريق أنّ السيارة التي تقلّها تعطّلت وسط الطريق حيث المكان الذي لا تحبّ أهله ولا الأعمال التي تُمارس فيه، ومَن يراها الآن فسيلاحظ فوراً احمرار وجهها غضباً ولن يتجرّأ أن يتحدّث معها البتّة، إلّا أنّ السائق الشاب لم يكن ليكترث لها، وكان وجودها كعدمه بالنسبة إليه، فحاسّته السادسة قد لمست جذوة الحقد التي كانت تسكنها. قال وهو ينظر إليها من المرآة: يبدو أنّ هناك عطلاً ما أوقف السيارة، سأرى ما الخطب. ثم نزل ولم ينتظر ردّها. راقبتهُ من النافذة الأمامية حتى اختفى عن ناظريها عندما رفع الغطاء الأمامي للمحرّك، فمالت ببصرها إلى الطريق، كانت أصوات القصائد الرثائية تملأ المكان، يتخلّلها صوت القرآن، أطفال يتسابقون لكي يقدّموا الخدمات، وكبار يتوسّلون بالسائرين لكي يأخذوا بعضاً من الطعام، وعجزة يتحاملون على أنفسهم ويقاومون آلام الكبر، لا لشيء، فقط لأنّهم يحبّون شخصاً يُدعى الحُسين (عليه السلام)، فيخدمون محبّيه. ومُشاة يقطعون درباً أشبه ما يكون بالصحراء المقفرة، ويتكبّدون عناء السير والحرّ، وقد عطّلوا أعمالهم، وأخلوا منازلهم من وجودهم؛ لكي يصلوا إلى زيارة مَن قُتِل قبل عشرات القرون. سألت نفسها: ما الداعي إلى كلّ هذا، وما الجدوى منه، ألا يمكن لأحد أن يعبّر عن حبّه بطريقة أخرى، ألا تنفع كلّ عجلات العالم للذهاب إلى مَن يُدعى الحسين؟! كمْ أكره هذا التبذير، لو صرفوا هذا الطعام على فقراء الناس لحصلوا على أجره! لم أخطئ عندما قلتُ: إنّ هؤلاء أناس يقومون بأعمال لا طائل منها! قاطع تأمّلها بعض رجال المواكب الذين تركوا أعمالهم وتوجّهوا نحو عربتها حيث يقف السائق، لقد هالها الأمر، فما الذي ينوون فعله بهذا الشاب؟ هل اكتشفوا أنّه يصطحب امرأة من غير مِلّتهم، وعلاوة على ذلك إنّها تكرههم أيّما كره! قادها ما تملك من شجاعة للترجّل من السيارة لكي تخبرهم أنّها مَن يطلبون لا هذا السائق المسكين، لقد شطّت كثيراً في عالم الخيال، وها هي تصطدم بأرض الواقع عندما رأت أنّ هؤلاء الرجال إنّما جاءوا لتقديم المساعدة عندما رأوا هذا الشاب وحيداً في منتصف الطريق! أخذ بعضهم يفحص السيارة معه، والآخر يخمّن العطل المحتمل، وآخر راح يجلب ما يملك من الأدوات التي تفي بالغرض. لقد ارتطم ظنّها حقّاً بسقف الواقع ونُسِف نسفاً. وعندما لاحظ السائق وجودها، قال لها: لقد تعطّل المحرّك، وقد يستغرق الأمر وقتاً لحلّ المشكلة. وخاطبها رجل عجوز كان واقفاً بالقُرب منهم: - بُنيّتي، موكبي مفتوح أمامكِ، يمكنكِ الذهاب وأخذ قسط من الراحة، تفضّلي عليّ بحضوركِ فيه. أخجلتها نبرتهُ المتوسّلة الرؤوفة، فقالت بصوتٍ مرتبك متردّد: - شُكراً لكَ يا عمّ. لا فائدة من المكابرة، فليس أمامها إلّا خياران، إمّا أن تبقى حبيسة في السيارة الخانق جوّها، وإمّا أن تنخرط مع هذه الجموع وتأخذ قسطاً من الراحة، وما شجّعها على الخيار الثاني هو أنّها متعبة جداً ولم تنم الليلة الماضية سوى أربع ساعات. فسارت في طريق المشاة، ومع أول خطوة وجدت الصغار يلتفّون حولها، فهذا يقدّم لها ماءً، وآخر عصيراً، والبقيّة أصنافاً مختلفةً من الطعام السريع. لم تستطع أن تمنع نفسها من الابتسام في تلك الوجوه البريئة، ولمّا أخذت الماء من إحدى الصغيرات، خاطبها طفل بروح الطفولة الغاضبة: - هذا ليس عدلاً، لِمَ تأخذين منها ولا تأخذين منّي! قهقهت وقالت له: أريد منكَ أن تُسدي إليّ معروفاً كبيراً، فالتمعت عيناه وتهلّلت أساريره البريئة فرحاً وردّ: سأبذل كلّ ما أملك من أجلكِ. اعتُصر قلبها لهذه الكلمات الحنونة الصادقة، وأخفت مشاعرها في طيّات النفس التي تراكم عليها الظلام. - أريد منكَ يا عزيزي أن تدلّني على مكان أجلس فيه، فأنا متعبة جداً. فسمع كلامها بقيّة الخدم الصغار وراح كلّهم يقولون: - أرجوكِ تعالي إلى بيتنا... - كلّا، كلّا، بل إلى بيتنا... - يا خالة أتوسّل إليكِ، أمّي ستفرح كثيراً بقدومكِ. - لم تأخذي منّي شيئاً، فلِمَ لا تأتين معي؟ فقاطعهم صوت جهوري لأحد الرجال: - أيّها الصغار، لن تذهب إلى منزل أيٍّ منكم، بل إلى منزلي! ضحكت وقد التمعت دمعة في طرف عينيها، فالصغار هنا لا يختلفون عن الكبار في حبّ الخدمة. وسرعان ما انتبهت لنفسها، ونزعت من ثغرها ابتسامتها وتمتمت لنفسها: ما الذي أفعلهُ أنا! عاودت النظر إليهم وهي تخشى أن تكسر قلب أحد منهم، ولا تدري منذ متى أصبحت تهتمّ لمشاعر هؤلاء الناس وهي التي كانت تحقد عليهم. فقالت: لا أريد الذهاب إلى أيّ منزل، لكن لو دللتموني على مكان أجلس فيه فقط، فسأكون شاكرةً لكم. فردّ عليها الرجل نفسه: - تعالي معي أختاه، توجد مقاعد مخصّصة للنساء في الهواء الطلق، يمكنكِ الاستراحة عليها. سارت معه وقد شغلها الصداع الذي داهمها فجأة عن أيّ شيءٍ آخر. ولمّا جلست على مقعد بالقرب من بعض النساء، أتت إليها فتاة ملتفعة بالسواد لا يظهر منها إلّا عيناها، فقالت وهي تخاطبها: ـ يا عمّة، أراكِ شاحبة جداً. فردّت عليها: رأسي يؤلمني قليلاً. - لعلّكِ لم تتناولي الفطور. - نعم، ربّما لهذا السبب. - أرجوكِ انتظريني هنا، سأجلب لكِ شيئاً قد تحبّينه. وذهبت الفتاة مسرعة نحو خيمة معزولة عن باقي الخيام، وعادت بعد دقائق تحمل على يديها أوانٍ تنوّعت فيها أصناف الطعام، فوضعتها على الأرض ثم اختفت مرّة أخرى، وعادت تحمل صندوقين كبيرين، وضعت أحدهما على الآخر ووضعت عليهما الأواني. كُسرت قيود الإنسان، وراحت تمارس طبيعتها وفطرتها الطيّبة، بعد أن حُبست لبرهة، وظهرت الروح صافيةً تحبّ الخير وتتأثر به. قالت سوزان للفتاة وقد أقلقها أن تكون ممتنّة لأحدهم: - لستُ بزائرة، لقد تعطّلت السيارة التي جئتُ بها في هذا المكان فقط. فتبسّمت الفتاة تحت نقابها الأسود، وأجابت: - نحن هنا مستعدّون لخدمة الجميع ما داموا في هذا الطريق. - ولستُ من ملّتكم أيضاً! وهنا أجابتها امرأة عجوز بلُغة الأجداد الموجزة والكافية، وكانت جالسة بالقرب منها وقد سمعت حديثها: - الإمام الحسين (عليه السلام) ليس حكراً علينا، بل هو للعالم كُلّه. قالت سوزان مستفسرة وقد خمدت جذوة الحقد التي بداخلها: - لِمَ تفعلون كلّ هذا؟ ولاحظت تألّقاً في عينيْ تلك الفتاة بعد هذا السؤال، فأجابتها: - لأجل الحسين فقط، فهذا أقلّ ما يمكننا أن نقدّمه له، فتضحيتنا لا تُقاس بتضحياته، وحبّنا له لا يمكن أن يسكن في الأعماق فقط؛ لأنّ حبّه طاقة وعمل وجهد، وأنا وكلّ مَن ترينه هنا، نسعى إلى أن نعبّر عن حبّنا بهذه الوسيلة، ونعتقد أنّنا بخدمة ضيوف الحسين (عليه السلام) إنّما نخدم الإمام الحسين ذاته، فالحسين اتّصل بالله تعالى فوهبه هذا المجد وهؤلاء الناس، ولقد كانت منّة علينا أن وهبنا الله شخصاً يستحقّ أن نبذل له الغالي والنفيس، فلو طلب أنفسنا ما كنّا لنبخل عليه بها. كلماتها الصادقة جعلت سوزان تبكي، وقد عزمت وهي تكفكف دمعة هربت من بين جفونها على أن تبحث عن الذي يُدعى الحسين، فلربّما كان حقّاً يستحقّ كلّ هذا العناء والحبّ. لم تكن قبل هذه اللحظة تتوقّع أنّها في يومٍ ما ستعاود النظر في كُلّ حساباتها.