ليست مجرّد خيمة

طيبة الحدّادي
عدد المشاهدات : 132

أنا مجرّد قطعة قماشٍ عاديّة _ أو هكذا كنتُ أتصوّر نفسي _ ولطالما فكّرتُ ماذا سأكون؟ ثوبًا فاخرًا يلبسهُ الأشرافُ والأغنياء؟ أم رايةً خفّاقةً تعانقُ السماء؟ لم أدرِ أنّ يد القدر ترسمُ لي أحلامًا لم أتصوّرها يومًا، حيثُ اشتراني شخصٌ يُدعى (حسن)، وأخذني معه حيثُ يسكن في بيت متواضع، جِلتُ ببصري في أنحاء البيتِ الذي بدا بسيطًا وأنا أضربُ أخماسًا بأسداس: لا أعتقد أنّ هذا الرجل سيصنع منّي شيئًا مهمًّا، ماذا سيفعل بي يا تُرى؟ وبعد أيام من الانتظار أدركتُ أنّي سأصبح خيمةً، فتبدّدت جميع آمالي وذهبتْ أحلامي أدراج الرياح، فماذا يفعل الناس في هذا العصر بخيمةٍ باليةٍ؟ هذا زمن القصور وناطحات السحاب لا الخيم! لكنْ ما باليد حيلة، لقد أصبحتُ خيمةً فعلًا، أهذا مصيري الذي كنتُ أحلمُ به؟ نصبَني صاحبي (حسن) ورفاقهُ على قارعة الطريق، لكنّهُ لم يكنْ أيّ طريق، حيث رأيتُ جموعًا غفيرةً من الناس يسيرون فيه، عرفتُ بعضهم كتاجر الأقمشة الذي باعَني، وبعضهم لم أعرفه، بلْ تهيّأ لي أنّ بعضهم لم يكنْ بشرًا، فهل هم ملائكة أم أنبياء؟ لستُ أدري ما سرّ هذا الطريق العجيب؟ تأمّلتُ حولي، فأبصرتُ خيامًا أخرى تشبهني منصوبةً على طول الطريق، وهناك لمحتُ لوحةً خضراءَ يَعلوها قليل من الغبار مكتوب عليها بخطّ كبير: الطريقُ إلى كربلاء! أحسستُ بالغبطة والسرور، وأخذتني نشوةُ الانتصار، واختلطت مشاعري حينها، أحقًّا اختارني مولاي الحسين (عليه السلام) لأكون خادمةً له؟ أدركتُ أنّ مَهمّتي قد بدأتْ، وأنّ الله سبحانه قد اختصّني لخدمة زوّار حبيبه الذبيح… شرعتُ أظلّلُ على الزوّار والخدّام من لهيب الشمس، ووددتُ لو يسمعني الجميع وأنا استقبلهم وأرحّب بهم في فِنائي الكبير، كان الخُدّام يتسابقون لخدمة الزوّار وتحهيز ما لذّ وطابَ من الطعام والشراب لهم، ولاسيّما صاحبي (حسن) الذي لا يكلّ ولا يملّ، فتراهُ يقدّم الطعام هنا، ويستقبل زائرًا هناك، وكلّما كان يعتريه التعب والإرهاق استند على أحد أعمدتي، فاحتضنه وأربّتُ على كتفه قائلةً: (هنيئًا لكَ…)، لقد عشتُ أجمل أيام حياتي هنا في طريق الجنّة، حتى نسيتُ ما معنى التعب والتذمّر. وفي صبيحة أحد الأيام، أقبل (حسن) صاحبي المخلِص متثاقلًا على غير عادته، ومعه جماعة من الرجال عرفتُ وجوههم على الرغم من أنّ الشمس قد غيّرتها، كيف لا وهم الذين كانوا يخدمون تحت ظلّي طوال هذه الأيام، فهذا أحمد الذي يوزّع الشاي على الزوّار مع ابتسامةٍ لا تفارق مُحيّاه، وهذا زيد الذي يقرأ لنا كلّ ليلةٍ دعاءً أو آيات من القرآن الكريم، وأحيانًا يقرأ علينا أشعارًا في رثاءِ مولاي الحسين (عليه السلام) فيبكي الحاضرون وأبكي معهم، ولا أنسى عليًّا، الطفل الصغير الذي يمتنع عن الدخول إلى فِنائي ويفضّل الجلوس تحت الشمس في طريق الزوّار لكي يقدّم لهم الماء. وقف حسنٌ أمامي للحظات يتأمّلني وكأنّه لم يرَني من قبل، يا إلهي ما الذي ينوي فعلَه؟ استطعتُ أنْ ألمح دموعهُ وهي تتلألأُ على خدّيه، لم أرَ حسنًا هكذا من قبلُ، اللهمّ إلّا في مجالس العزاء، فلمَ يبكي الآن؟ كفكفَ دموعهُ وانتزعَ عمودًا من كياني، فهويتُ على الغبراءِ وتألمّتُ بشدّة، صرختُ من أعماقي: لا تفعلْ ذلك يا حسن، أرجوكَ! غير أنّه استمرّ ينتزعُ أعمدتي واحدًا تلوَ الآخر. وضعوني في صندوق بسيط، نظرتُ إليهم وأدركتُ أنّ حسنًا ليس الوحيد الذي كان يبكي، بل كانوا جميعهم يبكون بحرقةٍ كأنّهم يدفنون فقيدًا عزيزًا أو يشيّعون جنازةً، بعضهم كان يشمُّني ويتمتم بكلمات لم أفهمْ شيئًا منها، أنا أيضًا كنتُ أبكي وأنتحب، يجب عليّ أنْ أتقبّل الحقيقة المُرّة، لقد انتهتْ أيام الزيارة، وسيعود الجميع إلى ديارهم، وها أنا ذا عائدة إلى دار حسن. وداعًا يا طريق الحسين، سأنتظر أربعينكَ القادم يا مولاي بلهفة لأكون خيمةً تحتضن مُحبّيكَ وخُدّامكَ فداءً لخيامكَ المحروقة.. سأنتظر...