رياض الزهراء مشاركات
عتيق الحسين
"السلامُ على الحسينِ وعلى عليّ بن الحسينِ وعلى أولادِ الحسينِ وعلى أصحابِ الحسينِ... هذا ما كنتُ أردّده عند دخولي إلى مرقد سيّد الشهداء (عليه السلام) واضعًا يدي على صدري معلنًا احترامي له. وعند وصولي إلى ضريحه المقدّس وإمساكي به، بدأتُ أشعر كأنّ روحي طائر يريد الخروج من قفص جسدي ويرفرف حول الضريح، فوضعتُ يدي على صدري محاولًا تهدئة روحي، فقلتُ لها: اهدئي يا روح فلم يَحن وقتكِ بعدُ، اصبري وتصبّري وانتظري يومكِ. وبعد أن قبّلتُ الضريح ابتعدتُ قليلًا لأصلّي ركعتين وأهديهما لإمامي الحسين (عليه السلام). (اللهُ أكبر، اللهُ أكبر): هذا ما كنتُ أردّدهُ دالًّا على انتهائي من الصلاة، وبينما كنتُ أتأمّل الضريح، وكيف أنّ الناس يتهافتون عليه فما أعظمكَ يا حسين! تناهى إلى سمعي نداء: شكرًا يا حسين! شكرًا ياحسين! قطعت تلك الصرخة حبل تأمّلي، فرحتُ أبحث عن مصدرها، فعثرتُ على رجل كان جالسًا عند أحد أبواب المرقد المطهّر وعيناه قد امتلأتا بالدموع كأنّها سحابة هاطلة تسقي صحراء قاحلة. فتمتمتُ في نفسي: لابدّ من معرفة سبب بكائه، فأنّي أشعر أنّ قصّته سوف تزيد تعلّقي بالحسين (عليه السلام)؛ لذا قرّرتُ الذهاب إليه، فسلّمتُ عليه فردّ التحية بأحسنها، فقلتُ: أعظمَ اللهُ لكم الأجر وأحسن لكم العزاء، وسكتُّ لبرهة، ثم أردفتُ: - أخي الكريم، هل لي بمعرفة اسمكم؟ - أنا عتيقُ الحُسين (عليه السلام). وازداد بكاؤه، فقلتُ: - من أين قدمتَ؟ - من أرض الله البعيدة، تبعد عن الإمام الحسين (عليه السلام) أيامًا. أدركتُ حينها أنّه لا يريد كشف هويته، فلم ألحّ عليه بالسؤال، ثم قلتُ: - أنتَ تشكر الحُسين (عليه السلام)، وصوتكَ قد علا، فشدّني ذلك إليكَ، وقلتُ في نفسي إنّ هذا الشخص لهُ قصّة ما، ولا شكّ ستزيدني إن شاء الله حبًّا وتعلّقًا بمولاي الحسين (عليه السلام)، فهلّا قصصتها عليّ من فضلكَ؟ تنهّد وقال: سوف أخبركَ بقصّتي. فبدأ يروي قصّته بعد أن مسح دموعه، وأنا أنصتُ له بكلّ جوارحي. - أنا شخص متديّن - أو هذا ما كنتُ أظنّهُ - لكنّي سيّئ الخُلق والطباع، وكنتُ اتّسم بسوء الظنّ بالآخرين، والناس تعرفني بذلك، وفي قريتنا كان الناس قد اعتادوا أن يذهبوا إلى زيارة الإمام الحُسين (عليه السلام) على شكل دُفعات؛ لكي لا تبقى القرية بلا حراسة، فتذهب الدُفعة الأولى ثم تأتي لتسمح للثانية بالذهاب، وهكذا. وعن طريق الاقتراع يتمّ تحديد الدُفعة التي يجب أن تذهب؛ فتجد الناس يسجّلون أسماءهم والرجاء والأمل يملؤهم، وأنا بدوري سجّلتُ اسمي، لكن الطامّة الكبرى أنّه مضت خمس سنوات ولم تخرج القرعة باسمي، ففي كلّ مرّة أضعه وأنا متأكّد من ذلك، لكنّه لا يظهر أبدًا. وبدأ بالبكاء مجدّدًا، وأخذ يشهق بصوت مرتفع، وظلّ يصرخ: لم يتمّ اختياري على الرغم من تجديد القرعة مرارًا وتكرارًا، الجميع ذهبوا إلّا أنا، إلّا أنا، إلّا أنا... انتظرتُهُ ريثما يهدأ ليكمل.. - ثم أيقنتُ أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) غير راضٍ عنّي، فيئستُ من الذهاب إلى كربلاء وأنا ألوم نفسي قائلًا: أنا السبب، أنا السبب، فلم أحترم الناس، ولم أقدّرهم، لم أكن حَسن الأخلاق، لم أساعد أحدًا، لم أحسن الظنّ بأحد، فيئستُ من نفسي، وأيقنتُ أنّي ولدتُ سيّئًا، حتى ظننتُ أنّ الحسين (عليه السلام) لا يستطيع إصلاحي – العياذ بالله - وذات مساء حلّ الظلام، وبحلوله ساوى بين ظلمة قلبي وبين ظلمة طرقات القرية، لم أتمكّن حينها من الرؤية لشدّة الظلام، فقرّرتُ العودة إلى منزلي، فالمكان خطيرٌ ليلًا. وفي طريقي إلى بيتي، سمعتُ صوت بكاء غريب! فقرّرتُ البحث عن مصدره، فوجدتُ عجوزًا قد سقطتْ على الأرض ولا يمكنها القيام مجدّدًا، سمعتها تندب الإمام الحسين (عليه السلام) وتبكي لينقذها ممّا هي فيه، فحيّيتها وقلتُ: ماذا تفعلين هنا يا جدّتي؟ ردّتْ عليّ السلام وأخبرتني بأنّها لا تستطيع الوقوف، وبعد أن أنهتْ كلامها، قلتُ لها: حسنًا لا بأس عليكِ، سوف أحملكِ على ظهري حتى نصل إلى منزلكم، فأبدتْ موافقتها وشكرتني، ثم أخذتْ تردّد: شكرًا يا حُسين، شكرًا يا حُسين.. فتعجّبتُ من أمرها وسألتُها: - لماذا تشكرين الحسين؟! فأنا الذي أنقذتُكِ وليس هو!! - اِستغفر الله يابُنيّ، فما الذي جاء بكَ إلى هنا؟ أليس الحسين (عليه السلام) هو الذي قادكَ إليّ؟ فقد سرحتَ بأفكاركَ حتى وصلتَ إليّ وأنتَ لستَ من هذه الناحية، أَو ليس الحُسين (عليه السلام) هو الذي أرشدكَ إليّ؟! هو الذي جعلكَ تسمع صوتي، هو الذي دلّكَ عليّ.. كانت تقولها بقوة، فسكتُّ ولم أتكلّم، وساد الصمت. وبعد قطع مسافة لا بأس بها قالت: ها هنا بيتي؛ لقد وصلنا، فكسرتْ تلك الجملة جدار الصمت؛ فطرقنا باب منزلها، وبالبكاء استقبلها أهلها، وتعالت الأصوات بالصلاة على النبيّ الكريم وآله، حامدين الله (عزّ وجلّ) على سلامتها مُردّدين: الحمدُ لله على سلامتكِ، ثم شكروني، وأردفت الجدّة: رحمَ اللهُ والديكَ؛ رزقكَ الله زيارة الحُسين (عليه السلام). فأجهشتُ بالبكاء، وخرجتُ مسرعًا ذاهبًا إلى منزلي، متّجهًا إلى حافظ أسراري ومستمع آهاتي: سريري!! استهللتُ بالشكوى وندبة حظّي العاثر، وأنا أردّد: لِمَ أنا؟ لِمَ أنا؟ هل يكرهني الحُسين؟ بالطبع كذلك، ماذا فعلتُ بنفسي؟ لأيّ طريقٍ اتّجهتُ؟ ماذا فعلتُ؟ كم أنا بائس، لن يذكرني الحسين، لن يدعوني سيّدي، إنّه لا يريدني، أجل لا يريدني! و بقيتُ أردّد تلك العبارات حتى غلبني النعاس، ولمّا فتحتُ عينيّ وجدتُ ظلامًا حالكًا، يا إلهي ما هذا الظلام، إنّه ظلام دامس لا أستطيع الرؤية بسببه، لكن هناك نور! أجل إنّه نور بعيد، لكنّي سأتّجه نحوه... لقد وصلتُ إليه، بل دخلتُ فيه؛ فغدوتُ أجوب بعيني يمينًا ويسارًا، فوجدتُ أناسًا كثرًا قد اجتمعوا، بعضهم جالس، وبعضهم الآخر يحلّقُ إلى الحسين، نعم الحسين.. وكان الحُسين (عليه السلام) جالسًا بعيدًا، رأسه في السماء وقدماهُ في الأرض، جالس على عرش عظيم، يا لهيبته! مجلسهُ مضيء مشرق، والذين يحلّقون حولَه يزدادون نورًا من نوره، يا له من منظر يعيد الروح إلى الجسد، لكن كيف أصلُ إليه؟ كيف؟ قد انشغل تفكيري؛ فأثار انتباهي شخص جالس إلى جنبي، رأيتُه كيف فُتِحت جناحاه عند مناداته: يا حُسين، يا حُسين، يا حُسين... عن يميني وعن شمالي بدأوا يفعلون ما يفعل، فتُفتح أجنحتهم، وأيّ أجنحة؟ بيضاء، صافية، جميلة، كبيرة تذهل كلّ مَن يراها، فقلتُ في نفسي: لابدّ من أن يكون لي جناحانِ مثلهم أحلّق بها، لكن سرعان ما اكتشفتُ أنّ جناحيّ مُغلقان ومُطوّقان بالسلاسل، وأدركتُ أنّ يديّ وقدميّ ورقبتي كُلّها مُقيّدة بالسلاسل، حاولتُ كسرها لكن بلا فائدة، رأيتُ الجميع يحلّقون إلّا أنا، وفي أثناء مُحاولتي كسر تلك القيود، وجدتُ نفسي أنخفض أكثر وأكثر، وأدركتُ أنّ الأرض تبتلعني، وكلّما قاومتُ يتمّ سحبي إلى الأسفل، فصرختُ: ساعدوني، فلم يجبني أحد، إذًا لابدّ من تغيير استغاثتي، فصرختُ: يا حُسين ساعدني.. ،كانت هذه صرختي الأخيرة، ثمّ تمّ دفني في الأرض. عمّ الظلام ولم أرَ شيئًا، والمكان أصبح باردًا، كنتُ وحيدًا، ثم رأيتُ شيئًا يلمعُ في الظلام، اتّجهتُ نحوه، إنّهُ أنا! أنا في الماضي، إنّها ذكرى عنّي! -كُفّ عن هذا! - لا تفعل هذا! - هذا سيّئ! لقد رأيتُ أعمالي السيّئة، وأنا كنتُ أوبّخ نفسي عليها، وصحتُ: يكفي، لا تظهروا لي المزيد، فأنا أخجل منها... إلى أن وصلنا إلى ذكرى الجدّة التي أنقذتُها، أخذتُ أتأمّل الحادثة بإمعان، فكانت الشيء الجيّد الوحيد الذي فعلتُه، ثم اختفت، لقد اختفى كلّ شيء وحلّ الظلام مجدّدًا. أفقتُ أبكي وأصرخُ: يا حُسين، يا حُسين، فلم أكن جيّدًا معه، لم أذكرهُ في ثنايا حياتي، أنا الذي تركتُ الحُسين، أنا الذي نسيتُه، لم أقِم مجلسًا له، لم أدرك عظمتهُ، لم أكن مؤدّبًا معه. وأنا على هذه الحال، أبصرتُ نورًا ساطعًا يقتربُ منّي، فارتاح قلبي وانزاح همّي، فجعل يدنو منّي شيئًا فشيئًا؛ وإذا هو شخص جميل الوجه، حَسن المظهر، فقلتُ له متعجّبًا: - مَن أنتَ؟ قال لي والابتسامة تعلو وجهه: أنا مَلَك من ملائكة ربّي، جئتُ آخذكَ معي، فهل تأتي؟ قلتُ: إلى أين؟ فقال: إلى الحسين (عليه السلام)، فهو يطلبكَ ويقول لكَ: نحن أهل البيت لا نكره أحدًا من شيعتنا وإن أساؤوا إلينا، ولا ننسى أحدًا منهم وإن نسونا، ولمحبّينا منزلة خاصّة لدينا. أخذتني الدهشة وشرعتُ أقول: حاشاهم، حاشاهم، فجادت عيني بالدموع الغزيرة، فمسكني من يدي وشدّني لأقف، وأخذنا نسير في الظلام حتى خرجنا منه، ثم قال لي: - حلّق، طِر عاليًا، وانشر جناحيكَ. قلتُ: لا يمكنني ذلك، فأنا لستُ مثلهم، قيودي قد منعتني، قلتُها وأنا مُطأطئ الرأس. فقال: أنتَ لم ترَ كسر قيودهم، بل رأيتَ تحليقهم فقط، كان عليكَ أن تتعلّم كيفية التكسير لا التحليق! هيّا تخلّص منها وحلّق، فارتفع صوته عند جملته الأخيرة. فقلتُ: كيف؟ علّمني! قال: أن تعاهدَ نفسكَ وإمامكَ أمام ربّكَ بأن تتوب وألّا تعود إلى الذنب ثانيًا. فقلتُ وعيني تفيض بالدموع: أعاهد، أعاهد، أعاهد. فوضع يده على قيودي وقال: يا حُسين.. فتحطّمتْ قيودي جميعها، كأنّها لم تكن، ففتحتُ جناحيّ وطرتُ إلى حبيب العالمين وأنا أنادي: حُسين.. حُسين.. حُسين. أيقظني من نومي صوت قرع الباب، إنّه باب منزلي، مَن يا تُرى قد جاء؟ فلم أعتدْ أن يأتيني ضيوف، فصحتُ: أنا آتٍ، وفتحتُ الباب وإذا بالمسؤول عن الزيارة... لماذا جاءني؟ ماذا يريد؟ قطع حبل أفكاري صوته وهو يقول: - السلام عليكم. - وعليكم السلام، تفضّل... فقال مسرعًا قاطعًا كلامي: إنّ جسّام قد رفض الذهاب معنا، وسيبقى في القرية، وقد قال: لا أريد الذهاب هذه المرّة، ودَعوا (...) يذهب بدلًا عنّي، فسألناهُ لماذا؟ فأجاب: لقد أنقذ أمّي البارحة، ويجب أن يُكافأ، وهل توجد مكافأة أجمل وأفضل من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وهل جزاءُ الإحسانِ إلّا الإحسان؟ فوافقناهُ الرأي، والآن نحن نريدكَ أن تذهب معنا، مثلما أنّ تكلفة سفركَ على جسّام، فجهّز نفسكَ بسرعة. عند سماعي الخبر جثوتُ على ركبتيّ، فقدماي لم تستطيعا حملي، وأجهشتُ بالبكاء وأنا أردّد: شكرًا لكَ يا حُسين، شكرًا يا حُسين. وها أنا هنا الآن مثلما تراني، فالجميع قد يتركني، لكنّ الحُسين (عليه السلام) لا يتركني... لم يستطع أن يضيف أكثر، فسكتنا، وشرعنا بالبكاء معًا... وبعد أن سكنت الأنفس، قال: هذه قصّتي، فأنا عتيقُ الحُسين (عليه السلام)...