تسبِيح السيّدة فاطمة الزّهراء (عليها السلام) ومغزاه الإيماني

محاسن غني الندّاف/ بغداد
عدد المشاهدات : 104

حين يوفّق المرء لاستشراف ملامح من حياة سيّدة نساء العالمين (عليها السلام)، فإنّه يعرج إلى حظيرة القدس الإلهية التي فاضت به روحها الملكوتية النافذة إلى عوالم العبودية وطاعة ربّ العزّة والجلالة، فزادها الله تعالى قربًا ودنوًّا، إذ اصطفاها على نساء العالمين من الأولين والآخرين، فإذا سأل سائل ما قوام حفظ القلوب من الضياع والانحراف، لجاء الجواب شافيًا من كلام الحقّ سبحانه، ألا وهو ذكره تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد:28)، والتي نزلت في محمّد وآل محمّد (صلوات الله عليهم) وشيعتهم(1)، فكم من آية قرآنية تنطق بذكر الله تسبيحًا وتقديسًا، بعثًا على التحرّك لالتماس الأثر بالقوة والفعل، فقال تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (الجمعة:1)، و كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ (النور:43) ووَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ  (الأحزاب:35)، فالكون بما فيه، دائم الذكر لله تعالى، وكلّ ذرّة لها تسبيح خاصّ يتناسب مع شأنها، وكلّما سما الذكر ارتقت النفس، فشاء الله بلطفه أن يخصّ خليفته في أرضه بذكر خاصّ يشتمل على ذروة التقديس، ومجامع التسبيح، بعدد محسوب ووقت مخصوص، واقتضت مشيئته سبحانه أن تكون السيّدة الزهراء (عليها السلام) واسطة فيضه على الخلق لكونها آية عظيمة من آياته، وحجّة من حججه البالغة على خلقه، المفطورة على طاعته وعبادته، فاستقرّ الذكر الكثير بين راحتيها: تكبيرًا، وتحميدًا، وتسبيحًا؛ لاستيعابها مَدَياته العميقة التي لا يسعنا أن ندرك منها إلّا اليسير، فما برح هذا الذكر يتردّد في ثنايا العبادات، فهو حاضر في تكبيرات الحجّ: (اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لاَ إِلهَ إلاَّ اللهَ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أكبَرُ، وَلِلّهِ الْحَمْدُ، اللهُ أَكبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، لاَ إِلهَ إلاَّ اللهَ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَّمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ)(2)، وحاضر عند كلّ ركوع وسجود في الصلوات، فـ(سبحان ربّي العظيم وبحمده) لا تكاد تنتهي إن لم يرفع الراكع رأسه مردّدًا التكبير، وكذلك الحال في السجود: (سبحان ربّي الأعلى وبحمده)، ثم (الله أكبر) عند الاستواء جالسًا، وحاضر في الصلوات الثلاثية والرباعية: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر)، فالتكبير تعظيم يليق بالعظيم المطلق، الذي تنزّه عن أن تدركه الأفهام أو الحواسّ، فتصاغر كلّ عظيم أمام عظمته، وخشعت العقول وانحسرت عن إدراك كنهه، واستحقّ الحمد وهو أهل للحمد، ولا تفصيل لمعنى الحمد وعلّته أفضل ممّا ذكرته السيّدة الزهراء (عليها السلام) في مستهلّ خطبتها الفدكية قائلةً: "الحمد لله عَلى ما أنْعَمَ، وَ له الشُّكْرُ على ما أَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِما قَدَّمَ، مِنْ عُمومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها، وَسُبُوغ آلاءٍ أسْداها، وَتَمامِ مِنَنٍ والاها، جَمَّ عَنِ الإحْصاءِ عدَدُها، وَنأى عَنِ الْجَزاءِ أَمَدُها، وَتَفاوَتَ عَنِ الإْدْراكِ أَبَدُها، وَنَدَبَهُمْ لاِسْتِزادَتِها بالشُّكْرِ لاِتِّصالِها، وَاسْتَحْمَدَ إلَى الْخَلايِقِ بِإجْزالِها، وَثَنّى بِالنَّدْبِ إلى أمْثالِها..."(3)، فالله تعالى صاحب النِعم العظيمة التي ابتدأ بها عباده من دون سابق مسألة، وأتمّ سبوغها عليهم تفضّلًا منه ورحمةً، ودعاهم إلى الاستزادة بالشكر لتتّصل النِعم، وعدم الاكتفاء بنِعم الدنيا، بل السعي لتحصيل مثيلاتها في الآخرة. وأصل التسبيح لله تنزيهه عمّا ليس من صفاته تعالى، وتنزيهه عن صفات المخلوقين، وكانت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) تذوب في أعماق هذا التسبيح تفكّرًا وتدبّرًا مستغرقةً في أبعاده الضاربة في مرتكزات المعرفة الإلهية الداعية إلى الإخلاص في العبودية وهو غاية المطلوب، فعلّة الخلق التي ذكرها الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات:56) لها وجهان متلازمان: وجه ظاهري تعبّدي ووجه باطني معرفي، فالعبادة شرطها الطاعة والتسليم والاتّباع، وكيف نتّبع مَن لا نعرفه؟ وأنّى لنا بمعرفته من غير دليل منه ونحن نقرأ في الدعاء: "بكَ عرفتُكَ وأنتَ دللتني عليكَ..."(4)، فهذا الذكر العظيم والتسبيح الجليل لم يكن مجرّد اصطفاف لبضع خرزات في المسبحة أو تحريك عابر للشفاه، بل هو نبض روح الزهراء (عليها السلام) الطاهرة التي ذابت في معرفة الخالق، فتصاغر عندها جميع المخلوقين. فحين تفرغين من صلاتكِ، بالغي في تعظيم الحقّ سبحانه، وحمده وتسبيحه مستحضرةً حال صاحبة التسبيح وهي تردّد: (الله أكبر...)، فستزدادين خشوعًا، و(الحمد لله...)، فتشكرين الخالق خضوعًا، و(سبحان الله...)، تنزيهًا وتقديسًا لمعبود (ليس كمثله شيء)، كأنّكِ تصطفّين مع الملائكة الذين لا يفترون عن تسبيحه تعالى، فينتقل بكِ الزمان والمكان إلى عوالم البهجة والرضوان النابعة من رضا مولاتنا الزهراء (عليها السلام)، وقد ورد عن إمامنا الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "ما عُبد الله بشيء من التحميد أفضل من تسبيح فاطمة (عليها السلام)، ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام)"(5). ........................... (1) تفسير البرهان: ج4، ص274-275. (2) تذكرة الفقهاء: ج4، ص155. (3) الخطبة الفدكية للسيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، بحار الأنوار: ج43، ص 148. (4) إقبال الأعمال: ص64. (5) الكافي: ج3، ص343.