يوسف قريش
عبد الله، وما أدراكم ما عبد الله؛ يوسف قريشٍ وصفوة شبابها، عفيف القلب، والعين، واليد، واللسان، وفوق كلّ هذا، هو إسماعيلها الثاني، وذبيح زمزم المفدّى.. هو ذا عبد المطلّب، كبير قريشٍ وزعيمها يقف مثلما وقف جدّه إبراهيم الخليل (عليه السلام) ليضحّي بولده الحبيب.. وهو ذا عبد الله، يقف بين يدي والده وقوف جدّه إسماعيل، وقلبه يخفق بكلمته الخالدة، مثلما جاء في قوله تعالى: )يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ( (الصافّات:102)، ويخرج من ذلك الموقف وقد افتُدِي بذبحٍ آخر عظيم، مئةٍ من الإبل.. ويستعيد سيّد قريش أنفاسه، ويستردّ روحه التي كادت تزهق قلقًا على ولده، ويقلّب ناظريه بين ولديه عبد مناف وعبد الله، ويلمح بعينه البصيرة وقلبه النافذ البصيرة ذينك النورين الساطعين من جبينيهما، ويرفع رأسه حامدًا شاكرًا، فقد شاء الله أن تجتمع في صلبه أنوار النبوّة والإمامة، ثم تفترق عنه بمولديهما لتحلّ في كلٍّ منهما تمهيدًا لتغدو في موقعها الأساس الذي لا يعلم به إلّا الله.. لقد عقد لعبد مناف على فاطمة بنت أسد، وها هو اليوم يتخيّر لولده عبد الله زيجةً يرضاها، ومَن أجدر بيوسف بني هاشم من عذراء بني زهرة؟! هي آمنة بنت وهب، المعروفة بالكمال والجمال والعفاف والحكمة والجلال، الطاهرة المطهّرة، فهنيئًا للصفوة بالصفوة.. إيهٍ آمنة، هنيئًا لكِ يا بنت الأشراف هذا القِران الميمون الذي باركته الأرض والسماء وسكّانهما، وها أنتما يا طائري الطهر والعفاف تلتقيان كاللؤلؤ والمرجان؛ لتخرج منكما السلالة الطيّبة.. أجل، ولئن لم تكن ثمرة هذا الزواج المبارك إلّا ذاك الطفل الأنجب الأعجب، فلعمري إنّه خير مَن قد جعله الله رحمةً للعالمين، ووالدًا للكوثر المصفّى، سيّدة النساء من الأولين والآخرين، وأبًا للأئمة الطاهرين.. وكم من النساء مُتنَ حسرةً بعدما تزوّج عبد الله من آمنة، فقد كان محطّ الأنظار والقلوب لحُسنه الباهر الذي حدا بالقوم ليدعوه (مصباح الحرم)(1)، ويحَ البشر الذين لا يرون بعين الحقيقة، ولا يلحظون من النور إلّا بريقه، فيقعون في ما وقعت فيه امرأة العزيز إذ عشقت يوسف؛ لأنّها لم تكتشف أنّ مصدر النور كانت روحه الصدّيقة، وكذا كان أمر عبد الله الذي حمل نور النبوّة في محيّاه المشرق، فازداد به إشراقًا وتألّقا، ولم تكن في النساء مَن هي جديرة بحمل هذا الكنز إلّا آمنة، وأكرم بها من أمينةٍ على الجوهرة الفريدة الكامنة.. ومضى عبد الله بعد أن أدّى أمانته إلى حليلته وحبيبة فؤاده، وسار في دروب الدنيا بتجارته، ليعرج بعدها إلى خالقه راضيًا مرضيًّا، فلا يعود أبدًا.. إنّه قدر مَن أحبّه الله فاصطفاه لنفسه، وشاء تعالى أن يُولد سيّد الخلق يتيمًا، وأن يفقد والدته الكريمة وهو في السادسة من عمره، ثم أن يفقد جدّه العظيم وهو في الثامنة، فيكفله عمّه الأقرب أبو طالب (عليه السلام)؛ ليغدو في كنف شيخ البطحاء سيّد أولاده، ويكون عزاؤه عند ربّه أنّه قد غمره برحمته على الرغم من يتمه، وكذا قال أرحم الراحمين: )أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى( (الضحى:6). .................................. (1) بحار الأنوار: ج15، ص91.