وهبت أنفاسها للخلود

زبيدة طارق الكناني/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 213

تنزوي الأضواء في غفلة عن الظلام وانكسارات القلوب عند أضرحة المعصومين (عليهم السلام)، وتنفض من قناديلها عتمة الأرواح لتضيئها وتشد أزرها باليقين، فترتدي مناجاتنا عباءة الطهر، وتشق أعنان السماء، تبحث عن غمام رحمة الله التي تظلل على ذنوبنا، وعن سحاب رأفته التي تستر عيوبنا؛ ليستريح ألمنا الهارب من نوافذ الصبر.. لكني اليوم سأسطر أسطرًا نحيلةً من جملٍ تعاني مرارة المصيبة، على ورقة فقدت القدرة على حمل تلك المواجع، بعدما أحرقت أوراقي القديمة كلها؛ كي أطفئ بالنسيان نار ألمها، لكنها مواجع عادت تنسل من ليالي سامراء كأمواج حزن تحتلني، فالتفتْ داخلي، أخذتْ تشهق في عمق أنفاسي، أيقظتْ جروحي المنفية، فترجل النبض المكلل باللظى عن لجة النيران يروي قصة بداية الأحزان الفاطمية، يلملم أسىً بقايا تلك الدار الكسيرة، فتكسرني دموعها القدسية، وتلوعني غربة نفحاتها الروحانية العابقة في ثناياها، فترجمت آهاتها خفقات في الضلوع تحمل جروحًا غائرةً، يروي كل ضلع ألمًا وغصة من غصص الزهراء (عليها السلام)، والوجد يمزق قلبها الذي يبكي من شدة الأنين على فقْد شمس الحبيب بلا دية ولا عزاء، تتجاذبها قيود الصبر، فهي ليست ككل النساء، إنها الحوراء الإنسية، إنها سر الله الذي يشعشع في الأكوان، لكن جنود إبليس أبوا أن يتسامى نور الحق، ويتغلغل في أرواح المتعبين، ورفض أن تلج الرحمة الساطعة المنبثقة من أنوار الطهر في نفوس العالمين، وهكذا أطلقت (الدرة البيضاء) آخر أنفاسها المتألمة من جور الجبت والطاغوت، بعد أن تفتحت زهرتها بينهم قبل سنوات، وها هم اليوم يضيقون عليها الأفق وآفاق السماء، فتلفظ أنفاسها الأخيرة صبرًا واحتسابًا، فكيف لا تتزلزل أركان مدينتي بالنحيب؟! فالعجب كل العجب! كيف لمن علم بذلك الطهر أن ينكر فضلها، وأن يرضى لأذيال الرجس أن يمنعها حقها؟! كيف يترك أيدي الكفر تتجرأ على وجه الحق والحقيقة، ويتعالى بنار حقده على باب الجنة فيحرقه؛ ليعلن بداية الظلم على آل الرسول (صلوات الله عليهم أجمعين)؟! كانت دموع السيدة الطاهرة بداية الارتواء لورود النصر، وكلماتها الباهرة وضعت دستور الحياة، ونصبت لواءً في كربلاء، تخاطب كل رايات الباطل ودعاة الضلال.. إن لواء العدل الإلهي سيظل مرفوعًا يستضاء به في كل الأزمان.. سينشره صاحب الزمان (عجل الله فرجه)، فيطالب بثأر أمه الزهراء (عليها السلام) وبثأر عزيزها، ويرتفع النداء: (يا لثارات الحسين).