على المدى والدي

طيبة مهديّ الربيعيّ/ بابل
عدد المشاهدات : 60

هذا الممر الضيق هو الطريق إلى بيتنا الذي مررت أنا ووالدي به في كل الظروف منذ صغري، حتى صرت أما لطفلي (محمد)، كنت أحرص أن يسبقني أبي بخطوة وأن أكون أقرب شخص إليه. كان أبي يهوى مولاي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويغبط كثيرًا (سلمان المحمدي، وميثم التمار، ومالك الأشتر)، وكل من رآه ولو خطفًا، كان يندبه في كل حين، وستشهد له عصاه كم قال يا علي وهو يجذبها إليه. أبي، مسامعي تفتقد صوتك ووقع أقدامك وأنت عائد إلى البيت. آهٍ يا أبي، يا محبا لأبي تراب، أرجو أنك قد نلت مرادك، ورأيت حبيبك في ذاك العالم. وأنا أسير ذات يوم بجانب المسجد، سمعت الخطيب يشدو بكلمات المعصوم قائلًا: "وأما حق أبيك فتعْلم أنه أصْلك، وأنك فرْعه، وأنك لوْلاه لمْ تكنْ، فمهْمـا رأيْت في نفْسك مما يعْجبك فاعْلمْ أن أباك أصْل النعْمة عليْك فيه، واحْمد الله واشْكرْه على قدْر ذلك ولا قوة إلا بالله"(1)، إي والله يا أبتي، لقد أورثتني كل هذا الحب لمولاي أبي الحسن (عليه السلام)، فله الحمد عليك يا نعمة الله المنجية، كنت تحبه حتى أنك كنت تقول فيه: هو أبي وأبو كل من له أب وليس له أب. أكملت مسيري إلى البيت الذي كان كل ركن فيه يذكرني بأبي، ودخلت الحجرة التي كان يجلس فيها، فهنا كان أبي يكتب ويقول: لقد ضعف البصر، وارتجف القلم، وساء خطي، وكل ما أرجوه هو أن تفهموا هذا الإرث. احتفظت بكتاباته وملاحظاته، وعلى الرغم من كبر سنه، إلا أنه كان يذهب كل صباح إلى زيارة سيدي أبي الحسن (عليه السلام). لا أزال أتذكر دموعه في آخر أيام حياته وقد تخلف عن زيارته لبضع ساعات، حتى في صباح فقده ونحن نصلي عليه، شعرت بأن أركان البيت تودعه، والباب الذي يأتي منه يفتقد خطواته الوالهة. من دون وعي صرت أقلب أوراقًا قد كتب عليها بخطه، وصرت أقرأ ما كتب من تأملات في الروايات والأحاديث الشريفة، وكثيرًا من الأحاديث التي دونها وتدبر فيها، وكان يكتب عقب كل رواية: صدقت يا مولاي، ومن غيرك صادق، كان يكتب كأن سيده يملي عليه، وكأنه يرى الإمام، حتى أنه يبدي عجبه من علمه اللامحدود، فيعلق: سبحان الذي أودعك علم محمد (صلى الله عليه وآله)! كيف لا وأنت نفسه! أتمعن في كتاباته، وأشعر بدفء راحتيه على جوانب الصفحات، ثم تفلت من يدي ورقة مكتوب فيها: أبي وأبو كل من له أب وليس له أب، وصرت أتأمل بشغف معنى هذه الجملة التي لطالما سمعتها منه، كتب في بداية الورقة: بسم الله الذي لا إله غيره، أرسل محمدًا (صلى الله عليه وآله) رحمةً للعالمين، وأتبعه بوصيه رأفةً، توصل العبد الحقير الذي لا علم له إلا من فضل سيده ومولاه أمير المؤمنين (عليه السلام)، لا استحقاقًا منه للمعرفة، بل مكرمة من مولاه، إلى أن من لا يتخذ محمدًا وعليا (صلوات الله عليهما) أبوين في دنياه، واستوفى أيامه، فإنه لم يدرك من الحق شيئًا، وقد قال سيد الأكوان محمد (صلى الله عليه وآله): "حق علي على هذه الأمة كحق الوالد على الولد"(2)، وقد صدق سيدي مداد النور في سلسلة الأطهار من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) الإمام زين العابدين (عليه السلام) بقوله في حق الأب، فأصل كل خير فينا أنت يا مولاي يا أبا الحسن، وإني لأرجو من الله أن يورث هذا الخير ولدي، وأن يعرفوا أنك ورسول الله (صلى الله عليه وآله) أبوا هذه الأمة، وهذا يعني أن لا فضل لنا في أي خير، بل مرجعه وأصله ومنبعه أنتما يا سيدي. ضممت الصفحة إلى صدري، وبينما كنت أقرؤها في سري بنبرة صوت أبي لا بنبرتي، وأشمها لأجد عطر الولاء يعبق منها، وصرت أقول: يا رب، ورث هذا الحب والولاء لولدي، ولا تقطع سلالة شيعة أبي الحسن (عليه السلام) ومواليه، إذ قطع علي سلسلة أفكاري طفلي قائلًا: أمي أنا جائع، وأخذ يشد يدي، فقلت: يا علي، يا أبي وأب من له أب وليس له أب، فترك ولدي يدي وراح يسبقني إلى المطبخ مرددًا: علي أبي وأبو أبي. أجل، هذا ميراثك يا والدي الذي أوصلته إلى أحفادك، وبفضل أبينا أمير المؤمنين (عليه السلام) سيستمر ذلك الميراث وينمو. ..................................... (1) بلاغة الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): ص126. (2) فرائد السمطين: ج1، ص297.