الخريطة والواقع

خلود ابراهيم البياتي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 113

في أثناء محاولاتي الدؤوبة لاستثمار الفرص المؤاتية لاقتناص المعارف الجديدة إشباعًا لنهم العلم المستمر، مررت بجملة مفادها: (الخريطة ليست الواقع)، فتأملتها قليلًا، وعندها سطعت في الأفق العديد من علامات الاستفهام، ما المقصود من هذه العبارة؟ أليست الخريطة هي ما ترسم الواقع وترشدنا إليه؟! فلنبحث سويًا في الأمر: لكل إنسان خريطة عن الواقع من حوله، بل الخريطة تبدأ من ذاته وما تحتويه من أفكار، ومشاعر، ومبادئ، وقيم، وعادات، والعديد من الأمور التي تتشكل منها آراء الشخص وتوجهاته ونظرته للعالم، ومن ثم ترسم له حدود التعامل مع الآخرين، وأسس وضع المعايير والخطوط الحمراء، إضافةً إلى ما يحفزه للمضي قدمًا، أو ما يكبح جماحه عن التقدم وإقحام نفسه في مواجهات تعود عليه بالضرر النفسي قبل الجسدي. وتلك الخريطة تتكون وتنقش في ذهن الطفل بأيدي من حوله من القائمين على التربية، وما أكثرهم في وقتنا الحالي، إضافة إلى سهولة وجودهم وقوة تأثيرهم، ابتداءً من مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام ذات الأهداف المنحرفة التي تشوه تلك الخريطة، وتحيد بها عن المسار القويم، وهنا تبدأ المشكلة، فالوالدان يغرسان القيم والمبادئ في ذهن طفلهما، ويرسمان الخريطة بمهارة عالية بحسب اعتقادهما، ومن ثم يخرج الطفل إلى العالم الخارجي، فيتلقى الصدمات، الواحدة تلو الأخرى، فالخريطة تقول له: إن الكذب والغش حرام، والواقع الذي يراه في المدرسة مثلًا يريه أن بعض التلاميذ يقومون بالغش، وهناك من يكذب ويقوم بالأفعال غير الجيدة، عندها تبدأ دوامة التناقضات لدى الطفل المسكين، فلا يعرف ماذا يفعل، والأدهى والأمر إذا حدث اختلاف بين ما يقوله الأبوان وبين ما يفعلانه، فهنا يقع الصراع الذهني لدى الطفل مع وجوب صمته وعدم الإفصاح عما يدور في ذهنه خوفًا وحبًا لمن هم القدوة والمثل الأعلى بالنسبة إليه، وكثيرًا ما يحدث من اختلاف بين ما نرسم في أذهاننا عن الآخرين وبين ما نجده على أرض الواقع، فنقع في صدمة، ونغرق في بحر الإنكار المظلم، على أمل المحافظة على صورة جميلة عمن نحب؛ لذا من المهم أن نقلل من سقف المثاليات والتوقعات العالية، فلا يمكن لأي خريطة مهما بلغت من الدقة والإتقان في رسمها أن تكون مطابقةً للواقع، لاسيما أفكارنا وتوقعاتنا عن الآخرين، فلابد من مخرج للطوارئ عند الصدمات العاطفية يبقينا على قيد الحياة؛ لنكمل رسالتنا في الدنيا بكل حب واطمئنان.