تعاور المفردات في القرآن الكريم

عبير عبّاس المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 374

لبيان القرآن الكريم وجمال معانيه سحر يأخذ بمجامع القلوب والألباب، سحر الإعجاز اللغوي والبياني والبلاغي، أضافة إلى أنواع إعجازه المتعددة، التي تشمل الإعجاز النظمي، واللفظي، والدلالي، والعلمي، والرقمي، والتاريخي، والنفسي، والتشريعي، والتربوي، وغيرها من أنواع الإعجاز، إلا أن الإعجاز البياني والبلاغي في القرآن الكريم له تأثير كبير في النفس، فحتى المفردة الواحدة فيه لها مكانتها، ولا يمكن تغيير مكانها للدقة الشديدة في معناها التي تتناسب تمامًا مع السياق العام للآيات، والجو العام للسورة، حتى مرادف المفردة الذي يختلف في المعنى عن المفردة الأصلية حينما يأتي في موطن آخر، فهو معجز وبليغ أيضًا، وهو ما يعرف بـ(تعاور المفردات) في القرآن الكريم. وأوضح الدكتور فاضل صالح السامرائي معنى ذلك بقوله: (قد تتعاور المفردات في التعبير القرآني، فتستعمل مفردة في موطن، وتستعمل غيرها في موطن آخر شبيه به، بل في القصة الواحدة قد تستعمل مفردة في موضع، وتستعمل غيرها في موضع آخر، مع أن القصة واحدة، والموقف واحد((1)، وتجدر الإشارة هنا إلى أن تعاور المفردات في القرآن لا يعد تناقضًا، ولا اختلافًا وإن اختلف معنى المفردتين في الموضعين؛ لأن المفردة قد تكون عامة في موطن، وخاصة في الموطن الآخر بما يقتضيه السياق والمقام، فلكل مفردة في الموضعين أداء للغرض السياقي، والدلالي، والوظيفي لها بشكل تام، ومن الأمثلة على ذلك: ١- (هامدة) و(خاشعة) في وصف حالة الأرض، حيث جاءت كلمة (هامدة) في قوله تعالى: يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث فإنا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ مخلقةٍ وغير مخلقةٍ لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمى ثم نخرجكم طفلًا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علمٍ شيئًا وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيجٍ (الحج:5). ووردت كلمة (خاشعة) في قوله تعالى: ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيءٍ قديرٌ (فصلت:39). وقد جاءت مفردة (هامدة) في سورة (الحج) لأن السياق كان في معرض الحديث عن البعث والإحياء والإخراج، و(الهمود) يناسب حالة الموتى، إذ هم جثث هامدة لا حراك فيها، فالأرض الهامدة، أي الأرض القاحلة الجرداء التي لا نبات فيها، هي أرض ميتة، والتصوير مناسب تمامًا للبعث بعد أن تخضر وتربو بعد المطر، كأنها بعثت من بعد موات. أما كلمة (خاشعة) في سورة (فصلت)، فكان الحديث في غالبه عن العبادة ووجوب الخشوع لله تعالى، وذكر الأرض بالخشوع مناسب تمامًا للعبادة. ٢- في سورة آل عمران هناك موقفان متشابهان، لكن في ختام الموقفين اختلف الفعل بين (يفعل) و(يخلق)، ففي قصة زكريا (عليه السلام) قال تعالى: قال رب أنى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقرٌ قال كذلك الله يفعل ما يشاء (آل عمران:٤٠)، أما في قصة مريم (عليها السلام) فقد قال تعالى: قالت رب أنى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون (آل عمران:٤٧)؛ وذلك لأن حالة النبي زكريا (عليه السلام) تقع في ضمن الأمور الطبيعية، فوفق قانون الأسباب والمسببات يتم التكاثر بين الزوجين، فوردت مفردة (يفعل)، أما في حالة مريم (عليها السلام) فيناسبها فعل (يخلق)؛ لأن الله تعالى خلق النبي عيسى بدون وجود أب(٢). ٣- كلمة (انفجرت) و(انبجست): قال تعالى: وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناسٍ مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (البقرة:٦٠)، وقوله تعالى: وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطًا أممًا وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناسٍ مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (الأعراف:١٦٠)، فثمة فرق بين (الانفجار) و(الانبجاس)، فإن الانفجار يكون للماء الكثير، والانبجاس للماء القليل، وكل تعبير يناسب موطنه، فإن المقام في سورة (البقرة) هو مقام تعداد النعم، بدلالة قوله تعالى: كلوا واشربوا، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، إن موسى (عليه السلام) هو الذي استسقى ربه، فناسب إجابته بانفجار الماء(٣)، بينما في سورة (الأعراف) كان المقام مقام ذم، والمناسب له هو (الانبجاس)، إضافة إلى أن الانفجار يسبق الانبجاس، فتنفجر العيون بالماء الكثير، ثم يقل مع مرور الوقت، وهذا السبق موجود حتى في تسلسل السور نفسها، فسورة (البقرة) تسبق سورة (الأعراف) بتسلسلها في المصحف الشريف. وبلحاظ ما تقدم، نخلص إلى أن تعاور المفردات في القرآن الكريم هو وجه من وجوه البلاغة، وسحر البيان، وضرب من ضروب الإعجاز اللغوي. .................... (١) بلاغة الكلمة في التعبير القرآني: ص١٢٥. (٢) راجع :لمسات ولطائف من الإعجاز البياني للقرآن الكريم: ص١١٨. (٣) التعبير القرآني: ص٣٢٢.